إذ نص صراحة على منع الكونغرس الأمريكي والحكومة الفيدرالية الأمريكية سن أي تشريع أو تبني أي سياسة تقضي بتمييز دين على آخر أو منع إقامة دين من الأديان أو تشجيعه.
وكان هدف هذا التعديل الدستوري وقوف الحكومة الأمريكية على مسافة واحدة من جميع الأديان بلا تمييز أو تفضيل. وبهذا الصدد يظل مبدأ فصل الدين عن الدولة في العلمانية الأمريكية مختلفاً جداً عن بعض العلمانيات الغربية الأخرى كالفرنسية مثلاً، إذ تعنى الأخيرة بسيطرة الدولة على الدين لا فصله.
وبينما تلقى الرموز الدينية وحرية العبادة حماية مقدرة في الدستور الأمريكي نجد الحكومة الفرنسية تبذل قصارى جهدها للسيطرة على معظم الرموز الدينية وإبعادها عن الحياة العامة كخمار المرأة المسلمة الذي تراه تهديداً لعلمانية الدولة، وهنا تتماهى العلمانية الفرنسية مع العنصرية وكراهية الأقليات المسلمة.
تعود حرية ممارسة الدين بالتاريخ الأمريكي إلى ما قبل الاستقلال عن التاج البريطاني عام 1776، وتحتوي كتب التاريخ المدرسي للتلاميذ الأمريكيين قصصاً عاطفية عن المهاجرين الأوائل الذين قدموا إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1620 أو ما يعرف بالحجاج الهاربين بدينهم بعد انفصال كنيستهم عن الكنيسة الإنجليزية لمخالفتها بعض معتقداتهم ورغبتهم في العودة إلى الجذور المسيحية الصرفة، وهنا يحتفل الأمريكيون سنوياً في تقليد لهؤلاء الحجاج المسيحيين بعيد الشكر بالأسبوع الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني كل عام.
يعد المجتمع الأمريكي في الغالب الأعم أكثر تديناً وإظهاراً للشعائر الدينية من المجتمعات الغربية الأخرى، فينتشر بطول البلاد وعرضها وفقاً لبعض الإحصائيات الأمريكية أكثر من 350 ألف كنيسة مسيحية فضلًا عن دور عبادة لأديان أخرى كالإسلام واليهودية وغيرهما، تمارس شعائرها الدينية بلا تدخل من الدولة، إذ تعد دور العبادة بهذه البلاد الأعلى في العالم من حيث نصيب الفرد.
وتعد الكنيسة الكاثوليكية الأمريكية إلى جانب المنظمات المسيحية البروتستانتية من أكبر المنظمات الدينية في الولايات المتحدة فيبلغ أعضاؤها عشرات الملايين من الأمريكيين.
ولقد واجه الكاثوليك الأمريكيون تمييزاً سلبياً ضدهم في السابق، خصوصاً مع تصاعد هجرات الأوروبيين الكاثوليك قبل أكثر من قرن، ويعد الرئيس الأمريكي جون كندي أول رئيس أمريكي كاثوليكي، ولقد اضطر في خضم سباقه للرئاسة الأمريكية إلى أن يلقي خطاباً تاريخياً تحدث فيه عن دينه الكاثوليكي وكيف أنه سيكون رئيساً لكل الأمريكيين وأنه لن يسمح للكنيسة الكاثوليكية أو لأي قسيس كاثوليكي أن يملي عليه ما ينبغي عمله، مؤكداً الفصل المبدئي للدين عن الدولة.
بعد ستين عاماً من فوز جون كندي انتخب الأمريكيون جون بايدن ثاني رئيس كاثوليكي في تاريخهم السياسي، وتجدر الإشارة هنا إلى أنه لم يتولَّ الرئاسة الأمريكية حتى الآن أي رئيس ملحد يبدي إلحاده علانية للناس.
ويدرك الساسة الأمريكيون جيداً أهمية الدين بالحياة العامة الأمريكية ويحرص المرشحون منهم للرئاسة على إظهار أثر إيمانهم في سلوكهم، وإن كان بعضهم في الواقع أكثر بعداً عن روح الدين كالرئيس الأمريكي السابق ترمب.
كما يندر أن تجد خطاباً هاماً لزعيم سياسي منهم يخلو في ختامه من الدعاء كي يبارك الإله الولايات المتحدة، وهكذا ديدنهم دوماً الدعاء بالبركة لبلادهم. ومن ملامح توقير الدين بالحياة العامة الأمريكية افتتاح مجلس النواب الأمريكي جلساته اليومية منذ 1789 بصلاة من رجل دين حتى يبارك الإله جلسات المجلس وتشريعاته، وهكذا الحال في كثير من المناسبات العامة الأخرى.
تظهر كذلك أشكال التدين الأمريكي في الحياة العامة من خلال إنفاق الأموال الطائلة التي تقدر بأكثر من مئة مليار دولار أمريكي سنوياً لصالح المؤسسات الدينية ودور العبادة، إضافة إلى الدعم السخي لمنظمات التبشير المسيحي خارج الولايات المتحدة.
ولقد بدأ العمل التبشيري المسيحي الأمريكي قبل نحو مئتي عام حينما ذهب خمسة مبشرين مسيحيين إلى الهند لنشر المسيحية هناك، ومنذ ذلك الحين توالت حملات التبشير فبلغ عدد المبشرين المسيحيين خارج الولايات المتحدة عام 2010 أكثر من 125 ألفاً في دول العالم المختلفة، وبذلك تكون الولايات المتحدة أكبر دولة إرسالاً للمبشرين وإسهاماً في نشر المسيحية.
وتمتلك الكنائس والمؤسسات الدينية المسيحية قنوات فضائية ومحطات إذاعية، ويمتلك كبار زعماء هذه المنظمات الدينية طائراتهم الخاصة ويعاملون معاملة المديرين التنفيذيين للشركات الكبرى.
كما توجد بالولايات المتحدة أكثر من 140 جامعة مسيحية تحت مظلة رابطة الجامعات المسيحية الأمريكية تدرس مناهج المسيحية بمقرراتها إضافة إلى التخصصات المختلفة الأخرى، فضلاً عن مئات الجامعات الأخرى ذات الارتباط المسيحي.
وجدير بالذكر هنا أن أكبر جامعة في الولايات المتحدة الأمريكية بعدد الطلاب هي جامعة ليبرتي التي يدرس فيها ما يقارب مئة ألف طالب وتبلغ قيمة أوقافها أكثر من مليار ونصف دولار أمريكي، كما تحتضن الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من عشرة آلاف مدرسة خاصة مسيحية، منها أكثر من خمسة آلاف مدرسة كاثوليكية يدرس بها نحو مليون ونصف مليون طالب من المراحل الابتدائية إلى الثانوية.
ويبلغ عدد المدارس الإسلامية أكثر من ثمانين مدرسة يدرس بها نحو خمسة عشر ألف طالب، وهذا يعد عدداً ضئيلاً من المدارس لا يتناسب مع حجم المجتمعات المسلمة في الولايات المتحدة، إلا أنه بدأت تظهر بوادر الاهتمام بالتعليم الجامعي الإسلامي مؤخراً فنشأت جامعات وكليات الخاصة واستطاعت كلية الزيتونة الجامعية في ولاية كاليفورنيا الحصول على الاعتماد الأكاديمي لبكالوريوس الآداب بالقانون الإسلامي وعلم الكلام عام 2015، لتكون بذلك أول جامعة أمريكية مسلمة خاصة تحصل على الاعتماد والاعتراف الأكاديمي لشهاداتها ومقرراتها الدراسية.
ويرأس الداعية المسلم الشيخ الأمريكي حمزة يوسف كلية الزيتونة الجامعية وقد حرص مع رفاقه العلماء على رفد المجتمعات المسلمة وقرابة 2769 مسجداً ومركزاً إسلامياً بقادة ودعاة يعلمون أمور دينهم ويدركون كذلك واقع مجتمعهم الأمريكي. وعلى الرغم من الآثار السلبية لأحداث الـ11 من سبتمبر المؤسفة وتداعياتها على الحقوق المدنية العامة للمسلمين الأمريكيين وما صاحبها من بعض حالات الاستهداف العنصري لهم من قلة متطرفة بالمجتمع الأمريكي فإن المجتمعات المسلمة في الولايات المتحدة الأمريكية تظل تتمتع بحقوق لا يجدها أمثالهم من المسلمين بالمجتمعات الغربية الأخرى.
وهكذا تظل العلمانية الأمريكية متميزة عن مثيلاتها من العلمانيات الغربية الأخرى، ولكن لا يعني هذا أن قضية فصل الدين عن الدولة قد حسمت حسماً كاملاً، فلا يزال جدل الدين والسياسة مستمراً بالحياة العامة الأمريكية.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.