تعيّن على الأوروبيين النزول إلى الخندق الأمريكي بعد اضطراب حساباتهم السياسية المُسبقة وسقوط رهاناتهم الدبلوماسية المتأخِّرة، فانخرطوا مرغمين في حملة العقوبات التي تقودها الولايات المتحدة على روسيا، ثمّ أعلنوا صراحة مساندة أوكرانيا عسكرياً واقتصادياً في الحرب، وباشروا زيادة الإنفاق على جيوشهم لمجاراة سباق التسلُّح الجديد بعد مماطلة استغرقت سنوات في هذا الشأن رغم إلحاح القيادة الأمريكية الأطلسية عليهم بذلك.
يتحرّك الأوروبيون الآن على مسار خطّته لهم إدارة بايدن منذ بدء أعمالها، ولا يجدون عنه مَصرِفاً. تجاوزت هذه الإدارة في بدايات عهدها نبرة دونالد ترمب التي اتّسمت بالغطرسة نحو شركائه الأوروبيين، فاستدعت ابتداءً شعارات الحرية وحقوق الإنسان التي تجمعها مع أوروبا لتوظيفها استعمالاً في مواجهة الصين وروسيا، واستعادت بهذه المناورة الخطابية شعارات استُعمِلت في الحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية. ثمّ عرقل مقرّبو واشنطن في الاتحاد الأوروبي أي فرص لإبرام تفاهمات استراتيجية هادئة بين القارّة الموحّدة وروسيا قبل شهور من اندلاع الأزمة الأوكرانية.
جرى ذلك في قمة بروكسيل الأوروبية التي عُقدت في يونيو/حزيران 2021 عندما تصدّت بولندا ودول البلطيق لمحاولة برلين وباريس إحراز توافق بين قادة الدول والحكومات على عقد قمّة أوروبية–روسية. كان من شأن القمّة أن تمنح الأوروبيين فرصة حوار مباشر مع موسكو وإمكانية ممارسة ضغط جماعي عليها، قبل أن تلوح نُذر الأزمة الروسية–الأوكرانية بشكل مفاجئ لاحقاً. تعثّرت محاولة الحوار تلك وخسرت أوروبا فرصة تعبير عن استقلاليتها النسبية عن الوجهة الأمريكية التي كانت تحاول حشد الأوروبيين خلفها في مواجهة روسيا والصين ضمن أولويات واشنطن المستجدّة. وعندما خرجت الولايات المتحدة من أفغانستان، كان واضحاً أنها تتهيّأ للتعامل مع الصعود الصيني والتحدِّي الروسي.
فقدت أوروبا قسطاً من وزنها الاستراتيجي بانفلات بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ثمّ تمكّنت واشنطن من اجتذاب لندن نحوها لتستعيد الآواصر الأنغلوسكسونية عبر الأطلسي متانتها، كما تجلّى في تحالف "أوكوس" الذي ضمّ واشنطن ولندن وكانبيرا واستبعد شركاء الناتو الأوروبيين. انكشف ضعف التكتُّل الأوروبي في الشهور الأولى من أزمة أوكرانيا عندما تجاهلت واشنطن وموسكو الأوروبيين من الاتصالات الثنائية بينهما، فحاولوا اللحاق بالمشهد في الوقت الضائع عبر مساعٍ دبلوماسية قادها الرئيس الفرنسي ماكرون وخرج منها خالي الوفاض.
بدا ماكرون في هيئة حامل رسائل وتحذيرات متبادلة بين الجانبين الروسي والأمريكي، فالروس يدركون أنّ فرنسا، شأن ألمانيا، ليست من يملك قرار الحرب والسلم في أوروبا، وأنها لا تقود حلف الأطلسي بالأحرى وإن كانت عضواً فيه.
انهارت الجهود الدبلوماسية الأوروبية المكثفة، ولم يفلح الردع الاستباقي الغربي بسلاح العقوبات في منع الغزو الروسي المباغت. شنّ بوتين الحرب في الميدان لفرض واقع جديد يُعيد الاعتبار إلى مكانة روسيا على المستوى الدولي. واستغلّت إدارة بايدن غزو أوكرانيا في حشد حلفائها في حرب تصعيدية باردة أعلنتها على روسيا سريعاً، تبتغي تحجيمها وإضعافها وعزلها، ويبدو أنها تجرِّب مع موسكو ما قد يقع إنزاله ببكين لاحقاً إن تحرّكت قوّاتها نحو تايوان.
لم يترك غزو أوكرانيا وإخفاق مساعي اللحظة الأخيرة الدبلوماسية هامشاً لتصرّف أوروبي مستقلّ عن النهج الأمريكي، فاضطرّ الأوروبيون إلى اللحاق بحرب "العقوبات المؤلمة" التي تختطّها الولايات المتحدة لحلفائها في مواجهة روسيا، رغم الأضرار التي ستعود بها هذه العقوبات عليهم أيضاً في مرحلة حسّاسة للاقتصادات الأوروبية بعد سنتين من جائحة كورونا وارتفاع معدّلات التضخّم. أدركت أوروبا في لحظة الحقيقة أنها رغم حرصها على مصالحها الاقتصادية وضمان أمن الطاقة فإنها تقع في مرمى التهديدات وتبقى رهينة الحماية الأمريكية التي دفعت بمزيد من القوّات والأسلحة والذخائر إلى دول الاتحاد الأوروبي الواقعة في شرق القارّة. ينخرط الأوروبيون في المواجهة بشكل غير مباشر مع إعلان الاتحاد تقديم مساعدات عسكرية للقوات الأوكرانية بقيمة نصف مليار يورو علاوة على مساعدات اقتصادية أخرى. جاء هذا التطوّر اللاحق بعد أن امتنعت باريس وبرلين وعواصم أوروبية أخرى عن دعم كييف عسكرياً قبيل الغزو الروسي حفاظاً على توازنات العلاقة الحسّاسة مع موسكو.
لم تأتِ هذه التبعية الأوروبية لقيادة واشنطن من فراغ، فأوروبا لم تتأهّل للتعامل مع التحدي العسكري الروسي بشكل مستقلّ عن المظلّة الأمريكية، رغم مبادرات ونداءات توالت في منصّات الوحدة الأوروبية منذ أواخر التسعينيات لأجل سدّ هذه الثغرة الاستراتيجية، كان آخرها ما كشفت عنه رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في خطاب "حالة الاتحاد" أمام البرلمان الأوروبي يوم 15 سبتمبر/ أيلول 2021، عندما أعلنت عن عقد مؤتمر يبحث هذه المسألة في ظل الرئاسة الفرنسية للاتحاد خلال النصف الأول من سنة 2022، ثم عصفت الريح بالوعود وتحرّكت وقائع جديدة على الأرض.
أضعف السلوك الأمريكي عبر إدارات متعاقبة، قدرة الاتحاد الأوروبي على التصرّف المستقلّ عن واشنطن في عالم متعدِّد الأقطاب، علاوة على المعضلات البنيوية في الوحدة الأوروبية التي نشأت تكتّلاً اقتصادياً في الأساس وأبقت الشراكة العسكرية مقتصرة على حلف الأطلسي.
بدت الولايات المتحدة، خاصة في عهد دونالد ترمب، مرتاحة لانسلال بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بينما بقي القرار الأوروبي في القضايا الاستراتيجية مشروطاً بموافقة دول شرق أوروبا ووسطها، التي هي في سياساتها الخارجية والدفاعية أقرب إلى واشنطن منها إلى بروكسيل. أدّى توسّع الاتحاد في وسط أوروبا وشرقها خلال العقد الأوّل من هذا القرن إلى دخول مقرّبي واشنطن إلى الأسرة الأوروبية وتأثيرهم المباشر في آليّات صناعة القرار. يصعد في هذه المرحلة الحسّاسة دور بولندا، المجاورة لأوكرانيا والمقرّبة من الولايات المتحدة.
إنها البلد الأوروبي الذي امتدحه جوزيب بوريل، مسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد في كلمته يوم 27 فبراير/شباط بسبب دور وارسو الفعّال في أزمة أوكرانيا، بيد أنها وارسو ذاتها التي أظهرت تمرُّداً غير مسبوق على الاتحاد في السنوات الأخيرة إلى درجة التلويح بعقوبات أوروبية عليها.
تبدو أوروبا الآن أكثر تماسكاً في اتخاذ قرارات استراتيجية، بعد نزولها إلى الخندق الأمريكي في الحرب الباردة الجديدة، كما تجلّى في قرارات سريعة وجريئة اتخذها الاتحاد في الأيام الأولى التي أعقبت غزو أوكرانيا. صُنِعَت هذه القرارات في الأروقة الأوروبية على عجل تحت وطأة حرب طاحنة تدور رحاها عند البوابة الشرقية، تتخلّلها حالة طوارئ نووية مُعلَنة. تستأنف أوروبا خبرة الحرب الباردة بعد ثلث قرن من الانقطاع، مع توظيف أدوات مالية واقتصادية مستجدّة من شأنها أن تعزل روسيا عن الاقتصاد العالمي والتطوّر التقني. يستعدّ الأوروبيون في الوقت عينه لاحتمال أعباء اقتصادية تفرضها هذه التطوّرات ولاستقبال ملايين من اللاجئين المُحتَمَلين الذين "يشبهوننا تماماً" هذه المرّة، حسب تعبير بعض المعلِّقين في منصّات إعلامية أوروبية لا يُخفون ذهولهم مما يجري.
تراجعت حسابات المصالح التقليدية التي أملت على أوروبا عموماً وألمانيا خصوصاً إدارة علاقة متوازنة مع موسكو، ذلك أنّ التدخّل الروسي في أوكرانيا يُصنّف في أوروبا حدثاً مفصلياً يفتح "صفحة جديدة" بتعبير جوزيب بوريل 27 فبراير/شباط، ومن شأن هذا أن يُغيِّر وجه أوروبا ويعيد رسم النظام الدولي على نحو يفرض على الأقطاب الدولية استنفار قدراتها كي تضمن مواقعها فيه.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.