توصَد دونهم الأبواب بتوافق أوروبي ضمني، يغض الطرف عن سلسلة من اعتداءات الضرب والنبذ في العراء وإطلاق الرصاص نحو اللاجئين، لكننا نرى اليوم الشرطة ذاتها تفتح الطريق وتحمل الأمتعة وتوزع الماء والوجبات على الفارين من الحرب الروسية على أوكرانيا.
وللدقة فإن هذه الحفاوة لا تسري على جميع اللاجئين، فالمعيار هنا ليس الموقف الأخلاقي القاضي بمد يد العون لضحايا العدوان، إنما الموقف النفسي والثقافي من الضحية ذاتها، ومن فوقه الموقف السياسي تجاه هذه الحرب وأطرافها ومسبباتها، ولذلك شاهدنا تكرار روايات عرقلة الضحايا من غير البيض ومنعهم من اجتياز الحدود طلباً للأمان.
لم يكن هذا التعاطي الرسمي في بولندا معزولاً عن ثقافة الشارع العامة في أوروبا. يتكشّف ذلك من خلال تورط العديد من صحفيّي ومراسلي قنوات التلفزة الأوروبية بعبارات عنصرية، أرادوا منها استحثاث مشاعر المشاهدين وشحذ تضامنهم، لكنهم لم يفعلوا ذلك عبر وصف فظاعة الحرب ومأساوية اللجوء، إنما عبر وصف لون بشرة الضحايا الفاتحة وعيونهم الملونة.
وعلى الرغم من أن المراسلين الصحفيين مُلزمون بانتقاء الكلمات المهنية وغير المنحازة، فإن التورط المتكرر في هذه العبارات مع عقد المقارنات التي تنتقص من أعراق أخرى، يكشف عن تجذّر انتقائية التضامن والتعاطف عميقاً في ثقافة المتكلم، بحيث صارت جزءاً أصيلاً منها لا يستدعي المداراة أو التجميل.
قاد أداء بعض المراسلين وتعليقات الضيوف والمسؤولين الغربيين إلى صرف الأنظار عن الإجماع الإنساني حول قسوة الحرب وفظاعة اللجوء، وهي لغة عالمية يفهمها جميع الناس، نحو التركيز على الخصوصية الماثلة في صدمة الإنسان الأبيض من تعرّضه لتجربتي الحرب واللجوء في الألفية الجديدة، وبدا وكأن العالم الذي يتحدثون عنه غير العالم الذي يعجّ بضحايا الحرب والإبادة والتهجير.
يجسّد هذا التعاطي نموذجاً مصغراً لإشكالية المركزية الغربية في إعادة تعريف الذات والآخر وحدود العلاقة والتعاطف بينهما. لطالما رأت هذه المركزية في الغرب مكوناً أصيلاً موجوداً منذ الأزل، ومتفوقاً في تاريخه وثقافته ودوره الحضاري، ومارست في الوقت ذاته، محواً لكل ما هو ليس غربياً، قاذفة إياه إلى خارج دائرة التأثير والاهتمام.
لقد صار الغرب هو مركز الحضارة ونقطتها المرجعية. فكل ما هو غربي، هو متحضّر بالضرورة، وهو حيوي ومتجدد، أما الآخر فهو نقيض الحضارة وسليل الرجعية والخمول بما يكفي ليُباح استغلاله والسيطرة عليه، وفي أحسن الأحوال تعليمه كيف يكون متحضّراً عبر دفعه إلى نبذ هويته وخصوصياته الثقافية.
ولأن اللحظة التاريخية التي نضجت فيها فكرة المركزية الغربية، اقترنت بقفزات واسعة في حقول المعرفة المختلفة من صناعة وسياسة واقتصاد، فقد استوت قوائم الكثير من العلوم على فكرة مضلّلة رأت في العالم الحديث جنة غربية مثالية، ثمارها محرّمة على غير الغربيين، وصار هؤلاء "الآخرون" ذواتاً غير أصيلة لا تنطوي على قيمة بحد ذاتها، إنما تستمد قيمتها ونصيبها الحضاري من قدرتها على الانسحاق وإعادة التشكّل وفق القالب الغربي، وبما يخدم روايته ومصالحه.
لم تتوقف سطوة المركزية الغربية عند حدود التغيير الناعم، الذي يسعى لتقديم نموذج خيالي ومبهر يُقنع العالم بمحاكاته، إنما تغولت لتصير مشروعاً سياسياً واجتماعياً شاملاً يسعى إلى تطبيق حلم تجانس البشر وقمع اختلافاتهم، عبر فرض النموذج الغربي بوسائل التوسع والاستعمار ومحاولة سحق حضارات عريقة وحتى إبادة شعوب بأسرها كما في تأسيس الولايات المتحدة وأستراليا.
هذه الفكرة التي ترسخت عبر قرون وأجيال من البشر، جاءت لتلبي التسارع المذهل للضرورات السياسية والاقتصادية للتنافس الدامي بين الإمبراطوريات الأوروبية، فتم تصوير الإنسان الأبيض بأنه الأكثر جدارة واستحقاقاً من غيره من البشر، وبأنه أكثر ذكاءً وتفوقاً بالدرجة التي تخوّله ممارسة العنف الاستعماري وسلب الكنوز والخيرات من الشعوب "الأخرى" وتسخيرها من أجل صالحه الخاص.
وبذريعة أن الرجل الأبيض ذكي ومتحضر، وبأن "الآخر" وحشي ومتخلف، تم تبرير الممارسات الوحشية للرجل الأبيض في آسيا وإفريقيا! وهنا اقترنت العبودية بلون البشرة، وانزاح مفهوم العرق من حيّزه الانثروبولوجي ليحمَّل دلالات طبقية صارخة وأخرى سياسية، مما جعل أهم مفكري القرن السابع عشر، مثل كوتن ماذر، يكتب في مذكراته عن مشاعر الصدمة والغثيان التي كانت تصيبه عند رؤية عمّال بيض يسوسهم رب عملهم الافريقي في الجزائر.
واليوم تحولت مجموعات المركزية الغربية والتفوق الأبيض إلى تيارات سياسية واجتماعية تنشط في الولايات المتحدة وأوروبا، وتصنّف من تيار اليمين المتشدد الذي لا يحظى بتأييد جميع الغربيين. وعلى الرغم من هذا التمايز، فإن ثقافة التفوق الأبيض ليست محصورة لدى جماعات اليمين ممن يمارسون العنصرية الواعية والمقصودة عبر الكراهية والنبذ لغير البيض، بل تجد هذه الثقافة متغلغلة في علاقات الهرمية السياسية والاقتصادية والثقافية التي يسيطر فيها البيض بأغلبية ساحقة على السلطة والموارد المادية، لا سيما في مجتمعات مختلطة مثل الولايات المتحدة، بطريقة تضمن أن يحتكروا وسائل التمكين والنفوذ التي تضمن استمرارية الهيمنة.
هذه السلسلة من تمكين البيض وتهميش من دونهم، تلتحم على صعيد عالمي، بقوة الأفكار الواعية وغير الواعية حول تفوق الغرب واستحقاقه، وما يُروى عن الفجوة بين الغرب وغيره من المجتمعات، بطريقة تعيد إنتاج وتفعيل علاقات الهيمنة البيضاء مقابل التبعية الملونة، وذلك عبر مجموعة واسعة من الأنشطة السياسية والاعلامية والاجتماعية العابرة للحدود. ولعل ما شاهدناه من مقاطع و"زلات لسان" رسمية وصحفية، ما هي إلا نتيجة لهذه العملية غير الواعية لترسيخ التفوق الأبيض، وفي نفس الوقت هي مُدخل جديد يضمن إعادة إنتاجها.
صحيح أن الإنسان يميل بطريقة تلقائية إلى إبداء التعاطف أكثر مع من يشبهه في شكله ولونه وطباعه، لكن هذا الميل يجب أن يكون خاضعاً للتهذيب والتطوير وصولاً إلى درجة أفضل من الرقي والأخوة الإنسانية التي تضمن العدالة للجميع، لا سيما إن كان المعنيّ ينطلق من مركزية ذاتية تكاد تحتكر صفة التحضر واستحقاق تمثيل القيم الإنسانية النبيلة.
كما أنه قد يبدو الانحياز التلقائي إلى من يشبهنا مقبولاً في حال لم نتورّط بمعاملة "الآخر" بطريقة تنزع عنه إنسانيته وحقوقه، أو تدعم بشكل فجّ عملية اقتلاعه وإبادته بناء على اصطفافات نفسية وثقافية أو حتى مصلحية، تماماً كما ينحاز الغرب "المتحضر" إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي وعنصريتها الممنهجة، أو يغض الطرف عن جرائم الصرب بحق مسلمي البوسنة والهرسك داخل القارة الأوروبية.
لا شك أن التعاطف السخي الذي تتسابق أوروبا على إظهاره خلال الحرب الروسية على أوكرانيا، هو سلوك نبيل، حبذا لو كان هو المعيار في التعاطي مع جميع القضايا الإنسانية، بصرف النظر عن عرق الضحية ولونه واختياراته السياسية، لكن تاريخاً طويلاً من الانحياز الأوروبي وواقعاً ماثلاً من انتقائية التعاطف والتضامن يجعل من هذا السلوك محط تشكيك وتساؤل.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.