تشهد مدينة القدس منذ أشهر حالة مطّردة من زيادة نفوذ دول المنطقة، على الرغم من الحضورين الكبيرين: الأردني والفلسطيني، لكن هناك دولاً أخرى دخلت على الخط، مثل تركيا والسعودية، وآخرها المغرب. السطور التالية تناقش تزايد النفوذ الإقليمي في القدس، وأين وصل التنافس بينها، وكيف ستنعكس صفقة القرن على مستقبل الإشراف على الأوقاف الإسلامية في القدس.
بصورة مفاجئة، أعلن العاهل المغربي ورئيس لجنة القدس، محمد السادس، منتصف أبريل/نيسان تخصيص منحة مالية للقدس، وإرسال معماريين وصناع مغاربة لصيانة الأصالة المعمارية، داخل المسجد الأقصى.
تعد الخطوة المغربية الأولى من نوعها تجاه القدس، وهو توقيت لافت، لم يحصل منذ سنوات، لكنه مرتبط بالتحركات الإقليمية تجاه المدينة، وتسجيل حضور دول المنطقة.
تأتي المنحة المغربية الموجهة للمسجد الأقصى، فيما يشهد الوضع في القدس توتراً مستمراً على الرغم من مرور عدة أشهر على اندلاع أزمة باب الرحمة في الحرم القدسي، بما يذكرنا بما حصل في أكتوبر 2017 حين وضعت سلطات الاحتلال البوابات الإلكترونية في الحرم القدسي.
وفيما يقترب العد التنازلي لإعلان صفقة القرن، يزداد السؤال أهمية: من يسيطر على القدس، وسط زيادة نفوذ عدد من دول المنطقة، كالسعودية وتركيا، ما يضع المزيد من الضغوط على الأردن والسلطة الفلسطينية معاً، لأنهما يَعدّان المساس بإشرافهما ووصايتهما التاريخية على الأماكن المقدسة الإسلامية في القدس تجاوزاً لخط أحمر.
تتابع إسرائيل عن كثب مساعي جهات عربية وإسلامية ودولية تعمل شرق القدس بصورة تشكّل تحدياً للجهود الإسرائيلية لفرض السيادة عليها، وهذه التحركات تشمل أنشطة سرية وعلنية، وتشمل فاعليات: دبلوماسية وثقافية وبنى تحتية وتعليمية.
بعض هذه الفاعليات ينطلق من اعتبارات قومية فلسطينية أو إسلامية، على الرغم من وجود قوانين إسرائيلية تحظر على السلطة الفلسطينية ممارسة أي أنشطة سيادية فيها.
في هذه الآونة، تتزايد تقديرات فلسطينية بأن واشنطن قد تعلن عبر صفقتها عن إقامة إدارة إسلامية بإشراف السعودية حول الأماكن المقدسة الإسلامية، وإبعاد الأردن والسلطة الفلسطينية جانباً، في هذه الحالة لن تكون مشكلة أردنية فقط، بل للفلسطينيين، الذين لن يسلموا بها.
لم يعد سراً أن هناك مخاوف أردنية فلسطينية من دخول السعودية على خط الوصاية كمنازع لهما، ما قد يضطر عمّان إلى إعادة النظر في تحالفاتها الإقليمية، لعدم السماح بالاقتراب من هذا الملف الحساس.
مع العلم أن الأردن يتمتع بنفوذ رسمي في القدس متفق عليه وفق اتفاق السلام مع إسرائيل عام 1994، والوقف الإسلامي بالقدس تابع للإشراف الأردني، لكن الرأي العام المقدسي يرى تراجع التأثير الأردني رويداً رويداً مع مرور الوقت.
تسعى السعودية من جهتها للحصول على موطئ قدم في الحرم القدسي، ويتخوف رجال الوقف الإسلامي فيه من وجود توجُّه إسرائيلي إلى إفساح المجال للسعودية بأن يكون لها نفوذ تدريجي فيه. تستغل السعودية أموالها ودعمها المادي لسحب البساط من تحت أقدام رام الله وعمّان في القدس، وتحاول في الآونة الأخيرة مد نفوذها في القدس عبر المال والمشاريع الاقتصادية، وقد طلبت الرياض من شخصيات مقدسية القيام بزيارتها من رجال الدين والصحافة والسياسة، مسلمين ومسيحيين، للقاء ولي العهد محمد بن سلمان، لكن المقدسيين رفضوا الطلب السعودي.
التنافس الأردني السعودي للإشراف على أوقاف القدس ليس جديداً، فقد سبق للرياض أن رفضت الاعتراف بإشراف عمّان عليها، كما حصل في قمة البرلمانيين العرب بالمغرب في ديسمبر/كانون الأول 2017.
ومن المتوقع أن يواصل الرئيس الفلسطيني محمود عباس دعم بقاء إشراف الملك الأردني عبد الله الثاني على الأوقاف الإسلامية المقدسية، وعدم تسهيل إيجاد موطئ قدم سعودي في الحرم القدسي.
وعلى الرغم من أن الفلسطينيين والأردنيين معنيّان في الوقت ذاته باستمرار حصولهما على الدعم المالي السعودي، لكن موقفهما موحد من عدم السماح للسعودية بأن تحل محلهما في الحرم القدسي.
بجانب عدم موافقة الأردنيين والفلسطينيين، لن يوافقوا على التوجه الإسرائيلي الأمريكي بإدخال السعودية إلى الحرم القدسي، يضاف إليهم طرف ثالث يتمثل بتركيا، الدولة التي لن تتساهل بسبب هذه الخطوة المتوقعة، لأنها تزيد من نفوذها في القدس منذ سنوات، وتنفق الكثير من الأموال والنفقات لتقوية تأثيرها ونفوذها في المدينة المقدسة.
هناك زيادة متراكمة في التأثير والنفوذ التركي داخل القدس، إذ تنظم المؤسسات التركية فاعلياتها المقدسية وفق منطلقات إسلامية معادية لإسرائيل بتوصيات من الرئيس أردوغان، الذي ينظر إليه المقدسيون على أنه آخر الحكام المسلمين الأقوياء.
تسمح تركيا لمنظمات مدنية وخيرية تابعة لها، بعض منها حكومية، بإرسال عشرات ملايين الدولارات إلى البلدة القديمة في القدس ضمن جهودها لزيادة نفوذها الديني والسياسي في الحرم القدسي، كما يشجع أردوغان شخصياً، ويدعم ما بات يسمى "السياحة التركية إلى الأقصى"، حيث يأتي عشرات آلاف الأتراك لمهمة الدفاع عن المسجد الأقصى.
وتمول الجمعيات التركية مؤسسات فلسطينية نظيرة لها في شرقي القدس، من خلال تنظيم رحلات مشتركة بين القدس وأنقرة، يشارك بها آلاف الأشخاص، وبحضور بارز للشخصيات التركية، وتنظيم مظاهرات واعتصامات في الحرم القدسي وحوله، وهم يحملون معهم أعلام تركيا ورايات حزب العدالة والتنمية، وصور أردوغان.
لا يزال المقدسيّون يذكرون استقبالهم بحفاوة بالغة لوزير الشؤون الدينية التركي محمد غورماز الذي زار القدس في مايو/أيار 2015، وجعلوه يخطب في المسجد الأقصى، ويؤمّ المصلّين.
تتركز الأنشطة التركية في القدس بمشاريع دعم الأحياء السكنية، وإقامة ملاعب رياضية، وترميم المرافق التجارية، وتقديم الدعم والإسناد للمقدسيين، وإنجاز سكن الطالبات بجامعة القدس، وتجهيز أرشيف المحكمة الشرعية، وترميم دار العجزة للمسنّين، وتقديم آلاف وجبات السحور والإفطار في شهر رمضان، وتزويد مدارس مقدسية بالتجهيزات الإلكترونية، وترميم البيوت والمحلات التجارية، وزيادة عدد صفوف بعض المدارس، وتزويدها بآلات رياضية وحواسيب.
وقد وجدت المشاريع التركية في القدس آثارها بجملة من المعالم والمؤشرات، لعل من أهمها زيادة الأعلام التركية، ومطاعم الشاورما التركية، وصور أردوغان على الجدران المقدسية، وهي مؤشّرات على أنّ الأتراك جادّون في زيادة نفوذهم في المدينة المقدسة.
أخيراً .. يأخذ التنافس الإقليمي على زيادة النفوذ في المدينة المقدسة أبعاداً متعددة، منها ما هو ديني وآخر سياسي، ويرتبط بصورة وثيقة بحالة الاستقطاب الإقليمي الحاصلة في المنطقة بين الدول والمحاور المتعارضة، الأمر الذي قد يبلغ ذروته في اتضاح موقع القدس في صفقة القرن الأمريكية التي يقترب الإعلان عنها.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.