منذ أن أصبحت الشركة ملأ سمع العالم وبصره حيث تتربع الشركة على عرش منصات التواصل الاجتماعي بعدد متابعين يناهز نصف عدد سكان الأرض بواقع 3 مليارات و500 مليون بعد أن انطلقت كمنصة داخلية لمجموعة تعارف طلابية في جامعة هارفارد.
وبعد أن ظن زوكربيرغ بأنه قد تنفس الصعداء على إثر هزيمة الرئيس السابق دونالد ترمب وخلاصه من الاتهامات التي كيلت للشركة حينها وتتعلق بدعمها أو تسهيلها لحملات التضليل، والترويج لنظرية المؤامرة، تواجه الشركة اليوم تحدٍ لا مثيل له في تاريخها أحدهما تقني، والآخر فني حدثا بشكل متزامن في الأيام القليلة الماضية، وهو ما يضع الشركة أما تساؤلات المستخدمين حول مصداقيتها وجدارتها التقنية.
فقبل يومين، وبشكل مفاجئ، تعطلت خدمة تطبيقات شركة فيسبوك عن العمل، واختفت من شبكة الإنترنت لما يقرب من ستة ساعات متواصلة، أدت إلى خسائر كبيرة جدا على المستوى الاقتصادي. فالسيد مارك لحده خسر ما يقرب من 7 مليارات دولار من ثروته التي تقدر بـ127 مليار دولار، في حين كانت خسائر قطاع الإعلانات في الشركة ما يقرب من 500 ألف دولار عن كل ساعة انقطاع، هذا فضلا عن حالة القلق التي انتابت عشرات الملايين من المستخدمين حول بياناتهم الخاصة واحتمالية تسريبها كما حدث سابقا عام 2019 عندما استطاع مجموعة من القراصنة الإلكتررونيين من قرصنة شبكة فيسبوك وتسريب بيانات ما يقرب من 500 مليون مستخدم على إحدى صفحات الـDark Web.
لا شك أن نوعاً من الارتياح قد ساور هؤلاء المستخدمين، ونحن منهم، عندما أكدت الشركة أن الانقطاع المفاجئ لم يكن سببه هجمات إلكترونية أو قرصنة بل بسبب مشكلة تقنية بسيطة تتعلق بتحديثات تجريها الشبكة بشكل معتاد على أنظتها الداخلية أو كما قالت الشبكة في تصريحها بأن السبب كامن وراء ما أسمته "تغيير التكوين الخاطئ" "faulty configuration change"، وهذا معناه بأن الشبكة التابعة لفيس بوك فقد التواصل ما بين خوادمها المركزية أو ما يسمى بـData Center، وبين أجهزة التوجيه الـ routers، وهو ما يعني أن أجهزة التوجيه أصبحت غير قادرة على التواصل مع الخوادم وتزويد المستخدمين بالبيانات التي يريدونها.
بالعادة إصلاح هذا الخلل يكون بسيطاً للغاية ويحدث عن بعد، ولكن في حالة فيسبوك الأخيرة، ولسوء الحظ، يبدو أن الشركة كانت تستخدم نفس الشبكة للموظفين للوصول إلى الشبكة عن بعد، ما يعني أن الانقطاع منعهم من الإصلاح الخلل عن بعد. كان الحل الوحيد هو الذهاب فعليًا إلى مراكز البيانات وإصلاح الخلل. ولكن كانت هناك مشكلة في هذا أيضًا، حيث لم تتعرف البوابات الالكترونية على هوياتهم الممغنطة والتي تبين أنها تعتمد على ذات الشبكة الداخلية وهو الأمر الذي تطلب مزيدا من الوقت حتى استطاع الفنيون الدخول إلى مراكز البيانات.
بطبيعة الحال لم تكشف شركة فيسبوك عن مزيد من التفاصيل واكتفت بما تقدم. وبالنظر إلى تاريخها المشكوك فيه من الشفافية، فإن الشكوك حول مزيد من الأسباب التي تقف وراء هذا الانقطاع مازالت حاضرة في أذهان الكثيرين. خصوصاً وأن هذا السبب الذي ساقته فيسبوك لا يبرئ ساحتها، إذ كيف تكون شركة بحجم فيسبوك لديها هذه السذاجة التقنية في التعاطي مع شبكاتها الداخلية. هذه السذاجة التي كلفت خسائر بالمليارات، وجعلت عشرات الآلاف بل مئات الآلاف حول العالم يعانون خصوصاً وأن منصات الشبكة سواء كان فيسبوك ماسنجر أو واتس آب أو انستغرام أصبحت تستعمل على نطاق واسع في قطاع التجارة الإلكترونية.
على أي حال، ما إن استفاق زوكربيرغ من صدمة الانقطاع المفاجئ هذه، حتى دخل في صدمة أخرى تتعلق بالشهادة التي أدلت بها مديرة قسم النزاهة السابقة في فرانسيس هوغن أمام لجنة فرعية في الكونجرس الأمريكي والتي اتهمت فيها شركة فيسبوك بانها تضع الربح قبل سلامة المستخدمين، وبأنها لا تقوم بما يلزم لحماية المستخدمين من مضار تطبيقاتها الإلكترونية بالرغم من معرفتها بذلك خصوصاً تلك الآثار التي تمس الأطفال حيث أظهرت أوراق بحثية داخلية في فيسبوك بان تطبيق انستغرام يؤثر بشكل واضح على الصحة العقلية للأطفال، وذلك على الصحة النفسية للمراهقات حيث أبدت غالبية الفتيات التي شملتهم هذه الدراسات بأنه أصبح لديهن تصورات سلبية عن أجسادهم بسبب تطبيق انستغرام. هذا فضلا عن خوارزميات فيسبوك التي تساهم في نشر حملات التضليل والاخبار الكاذبة ونظرية المؤامرة.
هذه الشهادة جاء بعد أن قامت هوغن بتسريب عشرات الآلاف من الوثائق الداخلية لشركة فيسبوك لبعض الصحف مثل صحيفة وول ستريت جورنال التي قامت بنشرهم على شكل "ملفات فيسبوك". وقد جاء خروج هوغن من شركة فيسبوك بعد أن رأت بأن الشركة تقدم مصالحها الاقتصادية المتعلقة بالربح والتوسع على حساب سلامة وخصوصية المستخدمين.
فقد وظفت هوغن في الشركة عام 2019 من أجل المساهمة في الحد من ظاهرة الاخبار الكاذبة والتضليل قبيل الانتخابات الأمريكية 2020، وقد اشتكت لاحقا بأن فريقها لم يتلق الدعم والرعاية الكافية، وبأن توصياته كانت تذهب أدراج الرياح. ولكن القشة التي قسمت ظهر البعير بالنسبة لها ودفعها للاستقالة وتسريب الملفات لاحقاً هو عدم تحرك فيسبوك جديا لمكافحة دعاية اليمين المتطرف بعد أحداث 6 كانون ثاني في الكونجرس الأمريكي أو ما بات يعرف بالأربعاء الأسود.
ما كشفت عنه هوغن ليس بالأمر الجديد، كما أشرت إلى ذلك في مقال سابق، الجديد أن ما كان معلوماً مسبقاً بدافع الظن والتخمين أصبح الآن في طور الحقيقي واليقين. ولا أقصد هنا التأثيرات السلبية لمنصات التواصل الاجتماعي على صحتنا النفسية والعقلية، وإنما أقصد هو علم هذه المنصات بهذه الأضرار السلبية وعدم اتخاذها الإجراءات المناسبة والكفيلة بالحد من آثارها. وبطبيعة الحال فإن منبع هذا العجز لا يمكن فقط أن يكون تضاؤل الإمكانات المادية والتقنية على سبيل المثال، وهو ما كان شائعاً التفكير فيه سابقاً، بل منبع هذا التقصير هو عدم وجود إرادة حقيقية لدى صناع القرار والمديرين التنفيذيين في هذه الشركات لاتخاذ خطوات حقيقية وجادة لمعالجة هذه المشكلة وذلك، كما أوضحت هوغن، يعود إلى خوف هذه الشركات من أن تؤثر أي إجراءات وقائية أو علاجية على هامش أرباحها الفلكية.
وبالاعتماد على آخر نقطة يبدأ العلاج. بمعنى أنه يجب على الناشطين والحقوقيين ومنظمات المجتمع المدني الضغط على أعضاء السلطات التشريعية من أجل سن قوانين تعمل على تضييق نطاق عمل هذه الشركات ودفعها للتفكير جيداً بأمن المستخدم كشرط مسبق لتحقيق العوائد الربحية. بمعنى يجب البحث في آلية لإخضاع هذه الشركات لسلطة القانون، والحد من قوتها غير المسبوقة.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.