تعدُّ عملية "طوفان الأقصى" التي شنّها مقاتلو كتائب القسام التابعة لحركة حماس، من قطاع غزة، ضدّ المستوطنات والمعسكرات الإسرائيلية المحيطة بالقطاع، حدثاً استراتيجياً غير مسبوق طوال خمسة وسبعين عاماً مضت على قيام إسرائيل.
فنحن إزاء أكبر هجوم فلسطيني وعربي منذ قيام إسرائيل، إذ كان مركز كل الحروب والمعارك الأساسية خارج الأرض المحتلة سنة 1948.
واستهدفت "طوفان الأقصى" خلال بضع ساعات نحو 20 مستوطنة و11 موقعاً عسكرياً، بما في ذلك مقر قيادة "فرقة غزة" التابعة لجيش الاحتلال.
وأدت العمليّة إلى أكبر عدد من القتلى الإسرائيليين، في كل الحروب التي خاضها الفلسطينيون بعد 1948، حتى مقارنةً بمعظم الحروب التي خاضتها الجيوش العربية.
ففي حرب 1967 لم يزد عدد القتلى الإسرائيليين على 750 قتيلاً، وخلال اجتياح لبنان سنة 1982 لم يزد على 650 قتيلاً، على مدى ثلاثة أشهر، أما في حرب يوليو/تموز 2006 فكان عددهم 104 قتلى.
ويظل الاستثناء الوحيد هو "حرب أكتوبر" عام 1973 التي دارت رحاها ما بين 6 و24 من أكتوبر/تشرين الأول، وقُتل فيها ما بين 2200 و2500 جندي إسرائيلي.
ونحن أيضاً أمام أكبر عدد من الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية تاريخيّاً، إذ يزيد عددهم على 150 أسيراً، الكثير منهم ضباط كبار في الجيش الإسرائيلي.
انهيار "نظرية الأمن"
إنّ أولى الدّلالات الاستراتيجية لعملية "طوفان الأقصى" هي سقوط "نظرية الأمن الإسرائيلي" القائمة على مبادئ الردع والإنذار المبكر والقدرة على الحسم؛ التي أُضيف إليها مبدأ رابع سنة 2015 هو مبدأ الدفاع.
كما أنّ عدداً من الأُسس التي قامت على تلك المبادئ ضُربت بقوة، مثل نقل الحرب إلى أرض "العدو"، والحدود القابلة للدفاع عنها، والمناطق العازلة.
ولأنّ الأمن أمرٌ جوهري في بنية إسرائيل، بوصفها قادرة على "سحق وردع" كل القوى والجيوش في البيئة الاستراتيجية المحيطة؛ فإنّ الضربة التي تلقّتها في الصميم ستُفرغها من محتواها في أعين سكانها، وتُفقد "أرض الميعاد" جاذبيتها.
وقد تدفع التطورات إلى موجة هجرة بسبب المخاوف الأمنية، لذلك سعت القيادات السياسية والعسكرية فوراً إلى التعبئة العامة، وتشكيل حكومة "وحدة وطنية"، محاولةً استرداد "حالة الردع" وترميم صورتها التي تهشَّمت؛ عبر قصف المدنيين وتدمير المرافق والخدمات المدنيّة في قطاع غزة.
مركزية القدس
تتجلى الدلالة الاستراتيجية الثانية لـ"طوفان الأقصى" في مركزية القدس والأقصى في الوجدان الفلسطيني والعربي والإسلامي، بما يجعله مصدر إلهام وموحِّداً وجامعاً لقوى الأمة، وموجّهاً لبوصلتها.
ولذلك، فإنّ تمادي الإسرائيليين في القدس ومحاولة تهويد الأقصى، كانت طوال العقود الماضية عنصراً يُخلف ثورة في مواجهة المشروع الإسرائيلي، وهو ما كان سبباً أساسياً لمعركة "طوفان الأقصى" التي حملت اسمه.
فيما تظهر الدلالة الاستراتيجية الثالثة في التكريس العمليّ لمشروع المقاومة، بوصفه الأداة الفعالة الصحيحة لانتزاع حقوق الشعب الفلسطيني ودحر الاحتلال.
فقد جاءت هذه العملية تتويجاً لعملٍ مضنٍ متواصل من حماس وقوى المقاومة في مراكمة القوة، حققت على أثره قفزات نوعية، بشرياً وعسكرياً وأمنياً، وقدّمت أداءً مذهلاً، توَّجت فيه أربع حروب سابقة.
وتأتي هذه العملية في ظل سقوط مسار التسوية السلمية، وفشل السلطة الفلسطينية في الاعتماد على اتفاقات أوسلو لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على فلسطين المحتلة سنة 1967، وفي ظل تنَكُّر الحكومات الإسرائيلية لمسار أوسلو ومضاعفة برامج التهويد والاستيطان.
فشل تطويع الإنسان الفلسطيني
أمّا الدلالة الاستراتيجية الرابعة فهي فشل المشروع الإسرائيلي في تطويع الإنسان الفلسطيني.
فخلال ثلاثين عاماً من الاحتلال البريطاني، وخلال خمسة وسبعين عاماً من الاحتلال الإسرائيلي، لم يتوقف الشعب الفلسطيني عن الانتفاضة والثورة.
ولم تنفع معه كل أشكال القهر والتهجير والتدمير والمعاناة؛ وكلّما ظن الإسرائيليون أنّهم نجحوا في إخضاع الفلسطينيين، ظهرت انتفاضة تُعيدهم إلى المربع الأول كما في الانتفاضتَين الأولى والثانية، وكما في الحروب التي خاضتها غزة، وانتفاضة القدس، وغيرها.
لذلك، لم يكن غريباً أن تقول صحيفة "هاآرتس" العبرية في عدد سابق لها: "إنّنا نواجه أصعب شعب في العالم".
وتظهر الدلالة الاستراتيجية الخامسة في فشل إسرائيل في الحفاظ على الصورة التي قدمتها لنفسها على أنّها "شرطي المنطقة".
فبعد حالة العجز والفشل في التعامل مع المقاومة الفلسطينية، وبعد سقوط نظرية الأمن، وانهيار الردع، لن يعتمد الغرب على إسرائيل في الهيمنة على المنطقة، ولن يعدّها قوة موثوقة تلجأ إليها دول المنطقة لحل نزاعاتها، وحسم صراعاتها مع أعدائها.
وغالباً ما ستفشل إسرائيل في ترميم الصورة التي ظهرت عليها في معركة "طوفان الأقصى".
وتتجلّى الدلالة الاستراتيجية السادسة في سقوط فرضية إمكانية إغلاق الملف الفلسطيني في وقت تُنشئ فيه إسرائيل علاقات "تطبيع" رسمية مع البلدان العربية والإسلامية.
ولن يجري الاستفراد بالفلسطينيين وعزلهم عن بيئتهم العربية والإسلامية، وفرض الرؤية الإسرائيلية في تسوية الملف الفلسطيني، وهذا ما تفاخر به نتنياهو خلال خطابه في الأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول الماضي.
لقد أثبتت عملية "طوفان الأقصى" أنّه لا يمكن تجاوز الشعب الفلسطيني وحقوقه؛ وأنّ المقاومة قادرة على أن تقول كلمتها، وأن تفرض شروطها على "اللعبة".
وأخيراً، فإنّ عملية "طوفان الأقصى" تركت أثراً عميقاً في المسار الفلسطيني، ومن المرجّح ألاّ يكون ما قبل تاريخ يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 كما بعده.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.