وكان من أبرز القضايا التي استغرقت ساعات طويلة كلّ مساء من نقاشات الغرف التي يفتتحها ناشطون وصحفيون على هذا التطبيق الجديد، الحديث عن دعوة رئيس الوزراء العراقي إلى ما أسماه "الحوار الوطني".
الدعوة أطلقها الكاظمي في الثامن من مارس/آذار الجاري عقب انتهاء زيارة البابا فرانسيس للعراق، مستثمراً الأجواء الإيجابية التي خلقتها هذه الزيارة التاريخية، وقال في تغريدة على حسابه في تويتر: أطلقنا مبدأ الحوار الوطني بعد اختتام زيارة قداسة البابا للعراق، وحجم الفرحة التي عاشها العراقيون وحجم التفاؤل بدور العراق الحاضر والمستقبل.
أما في حيثيات هذه الدعوة فقد أفاض القريبون من مكتب رئيس الوزراء عبر اللقاءات التليفزيونية أو حتى ممّا يكتبونه على مواقع التواصل الاجتماعي، في شرح أبعادها، وأنها تشمل الجميع، حتى الحوار ما بين المركز وحكومة إقليم كردستان العراق.
هذا الاتساع في صورة الحوار المرتجى جعله ضبابياً وغير واضح المعالم، وعلى الرغم من ذلك فإن التيارات السياسية انقسمت في ردود أفعالها تجاه هذه الدعوة، فقد رحّب بها الصدر والحكيم وشخصيات توصف بأنها معتدلة مثل رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، فيما لم تعلّق الكيانات السياسية الشيعية المقرَّبة من إيران بشيء، أو تعاملت مع الدعوة ببرود.
استمرار الحوارات والنقاشات في غرف Clubhouse أفضى في النهاية إلى تصورين أساسيين: أولهما أن هذه دعوة غير جدّيّة، تلتحق بسابقاتها من الدعوات المشابهة التي لم تُفضِ إلى شيء واضح المعالم، عقب كلّ أزمة تعصف بالنظام السياسي العراقي.
التصور الثاني، أن الدعوة جدّيّة، ولكنها تقصد بشكل مباشرٍ الحوارَ بين النظام السياسي والناشطين من قيادات وجمهور الحراك التشريني، الذي خرج في تظاهرات عارمة غير مسبوقة في أكتوبر 2019 وخلق زوبعة أدت إلى إسقاط حكومة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، وغيّرت في حسابات الوضع السياسي، وما زال جمر هذا الحراك لم يخبُ حتى الآن، بدليل استمرار التظاهرات على وتيرتها في ساحة الحبوبي مركز مدينة الناصرية جنوبي العراق، وتطوُّر الأحداث في هذه المدينة التي اعتُبرت معقل الحراك التشريني، إلى حد إقالة محافظها، واضطرار الكاظمي إلى تعيين رئيس جهاز الأمن الوطني الفريق عبد الغني الأسدي محافظاً مؤقتاً للناصرية، ريثما يتم الاتفاق على اسم يحظى برضا الأطراف ذات العلاقة، وأهمها متظاهرو الناصرية.
إن استمرار لهيب "الثورة" في الناصرية يرمي بشرره على المحافظات المجاورة، فنشهد تظاهرات في هذه المحافظة أو تلك، بالتجاوب مع ما يجري في الناصرية، وآخرها مطالبة محتجي النجف أيضاً بإقالة المحافظ وتعيين محافظ جديد مستقلّ عن نفوذ الأحزاب.
استمرار الحراك الاحتجاجي التشريني بشكل أو بآخر، واستمرار الناشطين في التعليق والكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي، يقودنا إلى مسارين: الأول استمرار استهداف الناشطين بالاعتقال أو التصفية من قبل المليشيات أو أذرعها داخل الأجهزة الأمنية، والثاني استمرار الشرخ بين جمهور المحتجين والنظام السياسي، وضعف الثقة بين الطرفين، ما يجعل التقدم باتجاه وضع مناسب لانتخابات مبكّرة أمراً غير مضمون، ومن ثمّ ضعف إمكانية إيجاد حلّ للأزمة السياسية القائمة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019 إلى اليوم.
في غرف Clubhouse تبلور شيء من الحوار الأوّلي بين المحتجين وأقطاب من السلطة الحاكمة، ابتدأت مع استضافة شخصية من تيار الحكمة الذي يتزعّمه عمّار الحكيم، وهو بليغ أبو كلل، وقدّم نفسه بأنه مؤيد لمطالب المتظاهرين، وأن تيار الحكمة يسعى لتقريب وجهات النظر وتشجيع ناشطي تشرين على المشاركة في الانتخابات، وكانت استضافة عاصفة أنتجت ردود فعل متباينة، لعلّ من أهمّها الشعور بالاستدراج وأن الأحزاب الحاكمة تحاول صناعة انقسام وشرخ بين صفوف الناشطين. ولكن هذه الاستضافات المثيرة استمرت على أي حال، إذ توالى عدد من مستشاري رئيس الوزراء في الليالي اللاحقة للحوار والردّ على الأسئلة، إن كانت تقنية تخصّ عملية تنظيم الانتخابات والاستعدادات الفنيّة لإجرائها، أو سياسية وأمنية، ولم تكن نتائج هذه الحوارات مشجعّة أو تحمل أخباراً طيّبة للجمهور المستمع، ولكنها كسرت حاجزاً نفسياً ما بين الطرفين، ولم يعد أمراً محرجاً أو "حواراً مع القتلة" كما علّق البعض. ويمكن في كلّ ليلة أن نسمع لبعض هذه الحوارات مع شخصيات مختلفة، ولكنها لا تحمل أي تطورات جدّيّة، ولا تكشف أسراراً أو تقدم معلومات جديدة.
الفكرة العامة التي يمكن استخلاصها من أحاديث المقربين من الفريق الحكومي، أن التعويل الأكبر هو على إجراء انتخابات ناجحة بحدّها الأدنى فنيّاً وأمنيّاً، ويجب أن نتعامل مع المعطيات بواقعية وأن لا نفرض سقوفاً عالية على شكل الانتخابات كشرط للمشاركة بها.
أما نوع التعويل، فهو أن التغيير الذي تحدثه المشاركة الواسعة والمكثّفة للناخبين والترويج للتيارات المعتدلة، ومشاركة التشرينيين بأحزاب وتيارات سياسية جديدة سيغيّر موازين القوى في البرلمان القادم، ويمنح الجناح المعتدل فرصة تشكيل حكومة ستكون أكثر قدرة من الحكومة الحالية على تحقيق مطالب التشرينيين، ومن خلفهم جمهورهم المؤيد لهذه المطالب، ومنها محاكمة القتلة والاقتصاص من الجناة الذين حرّضوا واستهدفوا المتظاهرين بالرصاص والاختطاف والاغتيال، وإنشاء إدارات أكثر فاعلية وأقلّ فساداً مقارنة بالحالية.
أما "الحوار الوطني" بزعم هذا الطرف المقرَّب من الحكومة، فهو لمحاولة ضمان أكثر ما يمكن من شروط تساعد التشرينيين على هذه المشاركة، وتخفيف شيء من التوتر بين الأطراف السياسية وجمهور التظاهرات الشبابي.
على هامش هذه الرؤية ذكر بعض التسريبات أن السيّد مقتدى الصدر يسعى بجديّة لفتح حوار بينه وبين والتشرينيين، بل وأوفد مستشاره السياسي إلى أربيل، للحوار مع بعض قيادات التشرينيين الهاربة من بطش المليشيات إلى هناك، كما أنه صار يكتب بشكل مستمر على حسابه الشخصي في تويتر تغريدات بذات المضمون، فهو يريد تقريب وجهات النظر بينه وبين محتجي تشرين، لأنه ربما يخشى أن هذه العداوة بين الطرفين ستؤدي إلى تقليل حظوظه في الانتخابات القادمة، فحتى إن قاطع التشرينيون الانتخابات فإن استمرار استهداف التشرينيين للصدر وسياساته ستؤثر فيه في نهاية المطاف.
على الطرف الآخر نرى أن محتجي تشرين لا يرون جدوى حقيقية من الحوار بينهم وبين أطراف من النظام السياسي الحاكم، والأجدى هو أن تتحاور أجنحة هذا النظام في ما بينها، فمن الواضح أن الأطراف المقرّبة من إيران هي الأقوى، وأن حكومة الكاظمي لا تستطيع أن تعطي ضمانات لناشطي تشرين بالعودة من المنافي إلى مدنهم، ومن ثم المشاركة في الانتخابات، ما دامت هذه الحكومة تعطي أدلة متزايدة في كلّ مرّة على أنها الطرف الضعيف في المعادلة، وأنها غير قادرة على إحراج الطرف المسلّح المقرّب من إيران في أي تفصيلة أو أي إجراء.
ولعل من ذلك استمرار استهداف الناشطين أو عوائلهم، مع صمت مطبق من قبل حكومة الكاظمي، فخلال النقاش حول "الحوار الوطني" اغتيل أبو أحمد الهليجي في محافظة ميسان جنوبي العراق، من قبل مليشيا محليّة صغيرة، خطفت قبل أكثر من عام ولده المحامي والناشط علي جاسب، وعلى الأغلب قتلته وأخفت جثّته. وكان تعليق الحكومة وأجهزتها الأمنية مخيباً للآمال، رغم معرفتها ومعرفة الجميع بالجهة التي اغتالت الأب وابنه.
إن الحكومة، استناداً إلى مثل هذه الحوادث المؤسفة، غير قادرة على التصرّف كسلطة تملك القوة والإرادة لفرض هيمنة الدولة على الفضاء العامّ في العراق، بل إنها تتفرّج على انتهاكات المليشيات والعصابات المسلّحة، وهي بذلك غير قادرة على منح الثقة لأي طرف بأنها ضامنة لسلامته، أو ضامنة لإجراء حوار مُجدٍ ويؤدي إلى حلول حقيقية.
إن الحوار الواقعي هو ذلك الذي يجري بعد أن تفرض الدولة سيطرتها، وتمنح كل مواطن عراقي شعوراً بأنه على قدم المساواة مع غيره من العراقيين، وأن حقّه في الحياة والكلام والتعبير عن الرأي محميٌّ بسلطة القانون. بعدها يستطيع أي شخص أن يتحاور مع مخالفيه وجهاً لوجه، لا عبر الفضاء الأثيري لتطبيق Clubhouse.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.