يلعب العراق دور الوزير في لعبة شطرنج التوازنات في منطقة الشرق الأوسط، فالعراق مفتاح الشرق الأوسط الجيو-سياسي والجيو-اقتصادي والجيو-ثقافي ويتربع على خطوط إمداد الطاقة الرئيسية في العالم.
ولعل ما يبعث على التأمل، أحزمة التماس التي كانت تحكم العلاقات الصفوية-العثمانية لعدة قرون والتي مثلت معاهدة "قصر شيرين" أحد أبرز محطاتها الرئيسية؛ وتشير إلى الموقع الحاسم لبغداد في رسم معادلات التوازن والسيطرة الدينامية للمنطقة.
واستمراراً للمنوال ذاته فإن إعلان الهيمنة الحاسمة للولايات المتحدة الأمريكية على المنطقة والتنظير لمشروع الشرق الأوسط الجديد 1991، ومن ثم مشروع الشرق الأوسط الكبير 2004، والتنظير لنظام إقليمي مختلف في المنطقة، جاء بعد إخراج بغداد من النسق الحاكم لتوازنات المنطقة، وهو ما يدلل على الأهمية التي يحتلها هذا البلد في التأثير على معادلات التوازن داخل المنطقة.
احتل العراق مكانة حاسمة وكبيرة بعد اندلاع الثورة الإسلامية في طهران 1979 في الذهنية الأمنية والاستراتيجية لدول الخليج العربية وفي النظام الإقليمي العربي الذي كان متماسكاً آنذاك، ومن خلال الحرب العراقية الإيرانية ظل العراق المكنّى (حارس البوابة الشرقية) يمثل الجدار الصلب الذي أدى إلى انحسار إيران، وتأثيرها على الشرق الأوسط، وإبقاء أخطار تصدير الثورة خارج أسواره.
إلا أن توجُّه العراق نحو تغير معادلة القوة في الشرق الأوسط بعد تعاظم قوته واتجاهه إلى احتلال الكويت، كان بمثابة نقطة الانقلاب التي حولت العراق إلى الخطر الرئيسي لدول الخليج العربية وبقائها على حد سواء. وعلى الرغم من ذلك بقي العراق يتمتع بصفة الجدار الصلب الذي يبقي إيران خارج حلبة التأثير بالنسبة لدول الخليج العربي.
إن الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003 أحال النظام الإقليمي ركاماً، وخلق اندفاعة كبيرة من بعض القوى الإقليمية نحو إعادة رسم معادلات التوازن في المنطقة وعلى نحو جديد، وفيما اندفعت إيران بشكل كبير وسريع للتفاعل مع طبيعة اللحظة التاريخية، ورأت الحادث كونه فرصة سانحة لتخلق واقعاً جديداً، تعاملت القوى الإقليمية الأخرى بتردد وسلبية تجاه العراق، وأبقت الساحة مفتوحة أمام إيران على نحو كبير.
وقفت السعودية ودول الخليج موقف المتردد تجاه العراق؛ محكومة بعقدة حرب الكويت. ولم تستطع تطوير تصور لطبيعة لحظة التحول التاريخي التي كانت تمر بها المنطقة. بل ظلت مدارك الساسة في السعودية والخليج محكومة بفرضية وجود عراق قوي يعني تهديداً وجودياً مباشراً.
كما مثّلت سيطرة الحكام الشيعة على الحكم في بغداد عائقاً كبيراً لكيفية التعامل مع حكم جديد ذي ظهير إيراني متين. هذا التصور خلق لإيران تفوقاً استراتيجياً فريداً داخل معادلة المنطقة، وتعاظم نفوذها في مساحات إضافية في سوريا واليمن ولبنان وفلسطين، وصارت التوازنات تميل لصالحها على نحو حاسم.
بيد أن السلوك السياسي الخارجي السعودي تجاه العراق بدأ بالتحول بعد 2014، وتمكُّن سيطرة تنظيم داعش على أجزاء واسعة من العراق، بالإضافة إلى ظهور فواعل جدد على الساحة العراقية بدأت تؤشر على السيطرة الإيرانية الحاسمة في السياسة العراقية، كتشكيلات الحشد الشعبي وغيرها، وجاء التحول حينها متناغماً مع التحول في استراتيجية الولايات المتحدة آنذاك والتي بدأت بتمكين الحلفاء للقيام بالأدوار المطلوبة في المنطقة بدلاً من الفعل المباشر.
ولقد حكم السلوك السعودي تجاه العراق بعدان أساسيان، تمثَّل الأول في التحرك غير الرسمي لنسج علاقة عابرة للدولة مع الفواعل والقوى الممثِّلة للتقسيم الاثني الحاكم للحياة السياسية العراقية، والثاني الذي بدأ بمرحلة متأخرة من خلال إصلاح العلاقات الرسمية والانطلاق لدعم الحكومة الاتحادية في بغداد، لا سيما بعد انتصار العراق في حربه ضد الإرهاب وتحرير مدينة الموصل، المعقل الرئيسي لتنظيم داعش، والتي تكللت بالزيارة الكبيرة لرئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي.
انطلقت السعودية وفقاً للبعد الأول من خلال نسج علاقات مع الكرد في إقليم كوردستان العراق، وفتحت قنصلية أربيل، كما صاعدت من نشاطاتها التجارية، وكانت الزيارة التي قام بها رئيس إقليم كوردستان إلى الرياض، وحفاوة الاستقبال الرسمي، دليلاً على عمق العلاقة بين الطرفين، ونتيجة لتصاعد العلاقات بين الطرفين أعلنت إيران قلقها الكبير من أن السعودية تسعى "لدور تخريبي" عبر تشكيل قاعدة نفوذ في شمال العراق تؤثر على إيران بشكل مباشر.
وسعت السعودية أيضاً لتطوير علاقات مع العرب السنّة في العراق، ودعمت إلى جانب قطر والإمارات وتركيا والأردن تشكيل تحالف القوى الوطنية (تضامن) والذي ضم القوى السياسية السنّية في الساحة العراقية، كما دعمت تشكيل قائمة انتخابية دعمتها بشكل مباشر في انتخابات مجلس النواب العراقي 2018.
وانتهجت السعودية سلوكاً مختلفاً عن السابق تجاه القوى السياسية الشيعية عبر محاولاتها نسج علاقات مع المحور الشيعي المناوئ إلى حد ما للنفوذ الإيراني المطلق في العراق، وكانت تجليات ذلك من الزيارة التي دعت لها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، ورئيس تيار الحكمة الوطني عمار الحكيم إلى الرياض، في إشارة إلى دور سعودي لدعم التوجهات الشيعية الوطنية.
على الجانب الآخر بدأت السعودية في نهج سلوك مختلف متناغم أيضاً مع السياسة الجديدة في بغداد التي انتهجتها حكومة السيد العبادي، والتي بدأت بالنأي بالعراق عن الاستقطابات الإقليمية، وفتح صفحة جديدة مع المحيط العربي للعراق، والتي تكللت بزيارة السيد العبادي للرياض وتوقيع اتفاقيات تعاون اقتصادي وتجاري مع المملكة. واستمر هذا النفوذ أيضاً بالوفد السعودي الموسع الذي زار بغداد مؤخراً، وانتهاء بزيارة السيد عادل عبد المهدي إلى السعودية بعد زيارته إلى طهران.
إن هذا الاستعراض لطبيعة السلوك السياسي الخارجي السعودي تجاه العراق، لا يمكن فصله عن التنافس والصراع السعودي الإيراني عند الحوافّ الاستراتيجية في سوريا واليمن على حد سواء، كذلك فإن توجهاً سعودياً تجاه العراق يأتي محكوماً بعودة العراق إلى محيطه العربي، ومنافسة النفوذ الإيراني في أشد معاقله تحصيناً.
بيد أن تقييماً بسيطاً للسياسة السعودية هذه تعبّر أيضاً عن القصور الكبير والفجوة بين الطموحات والواقع في تنفيذ سياستها. فقد عبرت سياستها تجاه العرب السنة عن إخفاق كبير بعد هزيمة حلفائها في الانتخابات العراقية، وانتهاء التحالف الذي شكلته، بالإضافة إلى أن الزيارات والانفتاح على البيت السياسي الشيعي لم يسفر عن مخرجات ملموسه في السياسة العراقية.
إن النفوذ الإيراني المتعاظم في العراق والمستند إلى ركائز استراتيجية رصينة، وشبكة صلبة من الحلفاء والوكلاء على حد سواء، لا يمكن مواجهته بذهنية استراتيجية قاصرة، لا تستطيع تطوير أدوات الصراع والمواجه على نفس النسق والاتجاه.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.