جاء اختيار هذه العواصم ترجمة لاعتراف أنقرة بالدور الذي لعبته البلدان الثلاثة في تحقيق المصالحة الخليجية. ولكونها أيضاً تشكل حلف الاعتدال داخل مجلس التعاون الخليجي، فإن أنقرة تعول عليها في دعم مسلسل مرتقب لإعادة الدفء المفقود في علاقاتها ببعض الدول الخليجية.
ولا تخفي الدول الثلاثة بدورها، الكويت وسلطنة عمان وقطر، امتنانها للرئيس رجب طيب أردوغان الذي جنب المنطقة شبح مواجهات مسلحة حين نزل بكل ثقل تركيا السياسي والعسكري لإجهاض عمل عسكري كان وشيكاً ضد قطر، خططت له دول الرباعية (السعودية والبحرين والإمارات ومصر) عند بداية أزمة حصارها لقطر في عام 2017.
ويحسب للبراغماتية السياسية التركية ذكاؤها في مواكبة أشواط المصالحة وتفاصيلها، حيث إن الرئيس أردوغان كان أول المهنئين بالمصالحة الخليجية. وكان لافتاً في تهنئته، مطلع يناير/كانون الثاني الماضي، تشديده القول إن"علاقات تركيا مع دول الخليج ستحظى بمكانة هامة في المستقبل".
وبنفس هذه النبرة عزف جاوش أوغلو خلال محطات جولته الخليجية بتأكيده أن "تركيا تدعم وحدة ورخاء وأمن دول الخليج".
القارئون لما بين السطور وقفوا عند دلالات المنطوق، وتفسيرات مضمون التوجه البراغماتي التركي في رسم استراتيجيات المستقبل القريب. فلم يكن خافياً أن وصول الديمقراطيين إلى سدة البيت الأبيض أملى على دول محور الرباعية (ولم يكن يتمنى فوز الرئيس جو بايدن بالانتخابات) تحركاً سريعاً لإعادة ترتيب البيت الخليجي وتغيير البوصلة.
ولعله واقع مواتٍ لأنقرة لبداية كسر صخرة الجليد القائم في علاقاتها بالسعودية والإمارات والبحرين ومصر.
ففي الثاني والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وعلى هامش أشغال قمة العشرين الافتراضية التي احتضنتها السعودية، بادر الرئيس أردوغان بالاتصال هاتفياً بالعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز.
وكانت تلك "مكالمة ودية في غاية الأهمية" حسب مصدر مطلع، تبعها في السابع والعشرين من الشهر نفسه لقاء في النيجر، جمع وزيري خارجية البلدين، على هامش اجتماع منظمة التعاون الإسلامي.
وعكس الوزيران، السعودي والتركي، في تصريحاتهما أهمية اللقاء وإيجابية نتائجه، لكن لا أحد منهما كشف عن النتائج الملموسة لتلك المباحثات التي أثمرت قرارات في غاية الأهمية بالنسبة إلى الجانب التركي.
كان أولها قرار سعودي بوقف الدعم لقوات PYD وترحيل ممثلها خارج الأراضي السعودية. لكن تلك المؤشرات لم تشكل خروجاً نهائياً من النفق، فالسعودية، كما الإمارات والبحرين ومصر، تتطلع إلى حسم نهائي لبعض الملفات العالقة يسبق أي تطبيع محتمل كامل.
وعلى رأس تلك الملفات ما يقال عن دعم تركيا لجماعة الإخوان المسلمين وإيواء منابرهم الإعلامية. ولا تخفي أنقرة أنها استقبلت معارضين مصريين لأسباب إنسانية عقب الانقلاب العسكري على نظام الرئيس الراحل محمد مرسي في عام 2013.
وقد تجد هذه النقطة الخلافية بين القاهرة وأنقرة طريقها إلى الحل في إطار تفاوض مباشر يجسد رغبة الأطراف المعنية في إيجاد حلول واقعية. وهو أمر تشجعه الإمارات بل تعتبره ضرورياً لإتمام مصالحتها مع أنقرة.
وعلى خلفية هذه الرغبة الإماراتية يُتوقَع أن تجد تركيا ومصر صيغة تعتمد قطع مساحة نصف الطريق في اتجاه حل مرضٍ وشامل مقترح من كلا الطرفين. إلى ذلك يُتوقَع أن تجد بقية الملفات الشائكة في علاقات أنقرة برباعية الحصار على قطر، أجوبة مقبولة في ضوء التطورات المتسارعة التي يعرفها الوضع السياسي الجديد في أزمات اليمن وليبيا وتونس.
معادلات الواقعية السياسية الجديدة في منطقة الخليج التي دشنت لعهد بايدن، ورغبة دولها في إعادة التموضع، هيأت الأجواء لتركيا لإعادة ترتيب أوراقها بعد أن يئست من محاولات التقارب مع أوروبا، ومن اتساع هوة الخلاف مع فرنسا التي تعمل جاهدة على "مناكفة" تركيا والحد من دورها الإقليمي كدولة مركزية.
الواقعية السياسية الجديدة قد تدفع أيضاً بالرياض إلى التمسك بتركيا حليفة قوية في المنطقة، تحسباً لما قد تؤول إليه مفاوضات الاتفاق النووي الأمريكي الإيراني وحسابات إيران في المنطقة. أما خلافهما حول ملف اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية السعودية بإسطنبول فقد أصبح مرشحاً لأن يعرف نهايته بعد فتح مفاوضات مباشرة بين الرياض وأنقرة.
وتعول تركيا، في انتظار أن تتبلور ظروف مصالحة كاملة مع السعودية، على إقامة محور رباعي قد يضم إليها الكويت وسلطنة عمان وقطر، لصد محاولات إبعادها عن "منتدى فيلا" الذي احتضنته العاصمة اليونانية عبر الفيديو نهاية الأسبوع، وجمع وزراء خارجية اليونان وفرنسا والسعودية ومصر والإمارات والبحرين، بهدف خلق جسر بين شرق البحر المتوسط والخليج والبلقان وأوروبا، في غياب مقصود لكل من تركيا والقبارصة الأتراك. وهو أمر لا تنظر إليه أنقره بعين الرضى.
ويُتوقَع أن تساهم لغة المصالح الاقتصادية المتبادلة في تسريع عودة تركيا بقوة إلى تقوية علاقتها بالنادي الخليجي، فلا تزال علاقاتها التجارية مع منطقة الخليج متميزة، وبحسب بيانات صادرة عن معهد الإحصاء التركي فإن حجم الصادرات التركية إلى منطقة الخليج بلغ في عام 2019 نحو 171 مليار دولار، أي بزيادة بلغت نسبتها 2.1%. وفي ذروة الخلاف التركي الإماراتي ظلت الإمارات الشريك التجاري الأول لتركيا، محتلة المرتبة التاسعة كأكبر مستورد للسلع التركية، وبلغ حجم هذا التبادل التجاري في عام 2019 نحو 7.4 مليارات دولار أمريكي.
وفي زمن جائحة كورونا واستفحال الأزمات المالية لأبرز دول العالم فإن لغة المصالح أصبحت عاملاً رئيسياً في تقريب الدول بعضها من بعض، كما صار الاقتصاد يصلح ما أفسدته السياسة.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.