تابعنا
يعالج هذا المقال بشكل مخصوص ملامح المشهد الراهن في الوسط الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة عام 1948، بما يفسر نمط تعامل الأحزاب العربية مع حالة الحرب، وكذلك مع الإجراءات الإسرائيلية التي اتخذت في محاربة أي تحرّك محتمل في الداخل.

في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، هدر الطوفان وهدرت معه الأسئلة العالقة حول فلسطين، الأرض والقضية، ومنذ اليوم الأول لاندلاع معركة "طوفان الأقصى"، تبادر إلى الأذهان مباشرةً السؤال حول إمكانية انفجار الجبهات الفلسطينية كافة في وجه الاحتلال، وخاصة بعد أن تبلور خلال العامين الماضيين شعار وحدة الساحات.

هذا الشعار الذي أخذه الاحتلال على محمل الجدّ منذ معركة سيف القدس (2021)، بالشكل الذي مكّنه من التحرّك ضد جبهتَي الضفة الغربية وأراضي عام 1948 بفاعلية وسرعةٍ لم يستطع الفلسطينيون مجاراتها حتى اللحظة.

يعالج هذا المقال بشكل مخصوص ملامح المشهد الراهن في الوسط الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة عام 1948، بما يفسر نمط تعامل الأحزاب العربية مع حالة الحرب، وكذلك مع الإجراءات الإسرائيلية التي اتخذت في محاربة أي تحرّك محتمل في الداخل.

عند الحديث عن الحالة في أراضي 48، خلال معركة "طوفان الأقصى"، نرتد تلقائياً إلى عام 2021، حينما استطاع فلسطينيو الداخل خلق مشهدٍ غير مسبوق، منذ العقدين الماضيين على أقل تقدير، فيما سُمّي "هبّة أيار" أو "هبّة الكرامة" امتداداً لهبّة "حي الشيخ جراح" بالقدس.

والارتداد يأخذ شكل المقارنة بين الفترتين، بما يُفضي إلى سؤال؛ لماذا لم ينتفض الفلسطينيون بالداخل كما حدث قبل عامين، رغم أن الدواعي والأسباب تتضاعف يوماً بعد آخر؟ وما الدور الذي تلعبه الأحزاب في مثل هذه الظروف؟

بين الأمس واليوم

في الواقع، إن عملية تفسير التحرّكات أو الهبّات الشعبية، وخاصةً في سياقنا الفلسطيني، أسهل بكثير من تفسير "اللا تحرّك". مع ذلك، يمكننا الوقوف عند بعض الوقائع التي من شأنها تفسير الخفوت الشعبي وحالة الموات الحزبي التي نشهدها حالياً في الداخل.

أوّلاً، لا بدّ من ملاحظة فرقٍ واضح بين الفترتين؛ وهو أن الهبّة الشعبية في القدس والداخل عام 2021 سبقت التدخل العسكري من المقاومة في قطاع غزة، بينما بدأت معركة "طوفان الأقصى" هذا العام بعملية عسكرية مفاجئة أُريد منها أن تستحث كلّ الجبهات للمواجهة.

وبينما كان الاحتلال عاجزاً عن ابتلاع الصدمة على "حدود" قطاع غزة في الأيام الأولى، بدا جاهزاً لإحداث حالة النفير بين كلّ مكوناته العسكرية والسياسية والمجتمعية من أجل لجم أنفاس فلسطينيي الداخل.

ولم تكن المؤسسة الإسرائيلية لتتمكن من تنفيذ إجراءاتها بهذه السرعة لولا أنها كانت مستنفرة أصلاً قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، وهنا نتحدث بشكل أساسيّ عن المؤسسة القانونية التي طوّعت أدواتها لمعاقبة وقهر أغلب المشاركين في هبّة الكرامة بالسجن الفعلي أو الحبس المنزلي أو الطرد من مؤسسات العمل.

وعلى سبيل المثال، أعلنت النيابة العامة الإسرائيلية العام الماضي، عن تقديم 397 لائحة اتهام ضد نحو 600 فلسطيني، رُبعُهُم قاصرون، على خلفية الهبّة فيما تُسمى "المدن المختلطة" مثل عكا ويافا وحيفا واللد.

وقبل أسابيع قليلة، صدر أول الأحكام العالية بحق المنتفضين؛ إذ حكمت المحكمة المركزية في حيفا بالسجن 17 عاماً على شاب من مدينة عكا بعد أن طالبت النيابة العامة بسجنه لمدة تتراوح بين 24-29 عاماً.

ويعدّ هذا الحكم "السياسي" عالياً جداً لم يواجه فلسطينيو الداخل مثيله منذ سنوات طويلة، ورغم أن ملف أغلب معتقلي هبّة الكرامة ما يزال مفتوحاً، فإن المؤسسة الإسرائيلية تعمّدت إصدار هذا الحكم بشكل مخصوص في فترة معركة الطوفان كعامل ترهيب إضافيّ فوق كلّ إجراءات التخويف التي اتخذت منذ بداية الأحداث.

أخذت إجراءات الترهيب أشكالاً عدّة، أبرزها شنّ حملة اعتقالات في صفوف أشخاص عاديين ونشطاء وفنانين وإعلاميين ومحامين وأئمة مساجد ومحاضرين في الجامعات وغيرهم، على خلفية إبداء التضامن مع غزة عبر وسائل التواصل الاجتماعي بحجة "التحريض" أو "دعم الإرهاب".

وكان واضحاً أن الاحتلال تعمّد "تسخيف" أسباب الاعتقال من أجل سحب التحرّك والخطاب السياسي نحو أخفض سقف ممكن؛ فيُصبح مجرّد كتابة منشور تضامنيّ على وسائل التواصل عملاً جريئاً ومجازِفاً.

أما من الناحية الأمنية، فقد فرضت قوات الاحتلال تشديداتٍ في الطرق، ووضعت الحواجز على مداخل عدد من القرى العربية في الداخل للتفتيش وتضييق حركة الناس وضبطها.

بينما لا يخفى البُعد الإجرامي في إعلان الحرب على الفلسطينيين بالداخل، من خلال اتخاذ إجراءات مُفرطة في علنيّتها، ومع بداية الحرب على غزّة، اشترى ما يُسمى وزير "الأمن القوميّ" إيتمار بن غفير عشرة آلاف بندقيّة رشّاش ووزّعها على "وَحدات الحماية" في البلدات "الإسرائيليّة"، في إطار عمل "قوات الحرس القومي" الذي أعلن عن تأسيسها في مارس/آذار الماضي.

بشأن حملة الاعتقالات والملاحقات الأمنية، من المهم الإشارة إلى تجنّد المجتمع اليهودي لها بما يتكامل مع المؤسسات الرسمية الإسرائيلية، وقد برز هذا الأمر في المؤسسات التعليمية والطبية التي تحوّلت في لحظة الحرب إلى مؤسسات أمنية جاسوسية؛ فأصبح الموظف الفلسطينيّ في مرمى استهداف زميله اليهودي في العمل الذي من الممكن أن يشي عنه للمؤسسة الأمنية في أي لحظة.

في الشهر الأول فقط من اندلاع الحرب، وثقت مؤسسات حقوقية تعرّض أكثر من 160 فلسطينيّاً (لا يشمل شرق القدس) لإجراءات قانونية على خلفية "تعبيرهم عن آرائهم فيما يخص الأحداث الجارية في البلاد"، كما بلغ عدد الإقالات من العمل أكثر من 80 حالة خلال الفترة ذاتها.

ونشرت الهيئة المشترَكة للكتل الطلّابيّة، الّتي تضمّ تحت سقفها 26 كتلة طلّابيّة عربيّة من مختلف الجامعات والكلّيّات الإسرائيليّة، وتعمل تحت مظلّة اللجنة العربيّة للطوارئ، وقالت إنّ هناك أكثر من 100 طالب عربيّ في المؤسَّسات الأكاديميّة الإسرائيليّة جرى تحويلهم، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول حتى نهاية الشهر الماضي، إلى لجان الطاعة في مختلِف المعاهد العليا.

كما نشر كثيرٌ من الطلبة الإسرائيليين منشوراتٍ تحريضيّة على مئات الطلبة العرب، وسط تواطؤ وتعاون الجامعات والكلّيّات والنقابات الطلّابيّة فيها، حتى بلغت حالة العنف ذروتها عندما شهدت مساكن الطلبة اعتداءات كبيرة في كلّيّة نتانيا، إذ عرّضت حياتهم للخطر.

تعامل الأحزاب العربية مع قمع فلسطينيي الداخل

في رصد وتحليل العمل الحزبي خلال الحرب الحاليّة، ربما يجوز التعميم على المكونات الحزبية كافة، باعتبار أن حالة القمع نجحت حتى اللحظة في حشر الجميع في سلّة واحدة من حيث حجم الدور والحضور.

ورغم تعويل كثيرين على مواقف مؤثرة من الشخصيات المحسوبة على الحركة الإسلامية الشمالية، بينما يبدو أن الضربات التي تتعرّض لها منذ قرار حظرها عام 2014 ما زالت تؤتي مفعولاً كبيراً في تقويض مجال عمل الحركة.

ورغم وعي المؤسسة الإسرائيلية أن الأحزاب العربية لم تكن محرِّك الاحتجاجات في 2021، فإنها كثّفت سياساتها بما يمنع تلك الأحزاب من البناء على أحداث الهبّة، بينما لم تنجح الأحزاب في ذلك الحين حتى في تطوير خطابها بما يستوعب ثقل الحدث والمرحلة التي أعادت الاعتبار لدور الفلسطينيين في الداخل، في رفد القضية الفلسطينية عموماً، لدرجة أن المؤسسة الإسرائيلية أصبحت تتعامل معهم كواحدة من جبهات حربها المتعددة.

أما خطاب الأحزاب فلم يعد يتعامل إلّا مع مسألة "تحريض اليمين الصهيوني"؛ بما حصر المعركة في الردّ على التحريض ونفي مضمونه، بدل مواجهة السياسات الإسرائيلية المُمأسسة والمُمنهجة في إبادة الوجود السياسي للفلسطينيين بالداخل، فكيف سيكون بإمكان مثل هذا الخطاب أن يتعامل مع حدثٍ بحجم الطوفان؟

بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول/ بدا أن الصدمة لم تطل الإسرائيليين فحسب، بل المكوّنات الحزبية الفلسطينية الفاقدة لخطابٍ قادرٍ على استيعاب المقاومة كإعدادٍ ومبادرة، وحصل هذا في الضفة الغربية، إذاً كيف سيكون الحال في الداخل المحتل الذي يتحرّك سياسياً ضمن "خصوصية" لم يجرِ تحدّيها بالشكل المطلوب على مدار العقود الماضية.

وحتى شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، كان المشهد في الداخل شبه مشلول، وعندما قررت لجنة المتابعة العليا تنظيم وقفة مندّدة بالحرب على غزة جرى قمعها بسهولة؛ فاعتقلت الشرطة الإسرائيلية عدداً من أعضاء الأحزاب العربية، وكذلك رئيس لجنة المتابعة محمد بركة قبل وصوله إلى موقع الوقفة في مدينة الناصرة التي حُددت فقط لمن جرت دعوتهم شخصياً، ولم تكن مفتوحة أمام الجمهور.

الرّد: التماسات قانونية لطلب ترخيص المظاهرات!

يبدو المشهد وكأن لجنة المتابعة وأحزاب القائمة المشتركة فقدوا معظم الأدوات، فهم لا يجدون "راحتهم" إلّا في المجال القانوني، بعد أن أخذ خطابهم السياسي يزداد تقزّماً شيئاً فشيئاً أمام وهم العمل السياسي تحت سقف الكنيست.

هذا الخطاب يحوّل القمع الإسرائيلي إلى "سياسة تكميم أفواه"، واستنفار المجتمع بالدعوة إلى الاعتداء والقتل إلى "تحريض يميني متطرّف"، وقمع المظاهرات إلى "مخالفة الشرطة للقانون"، وغيرها من المقولات التي جرى تحويرها بما لا يناسب طبيعة المعركة والعدوّ الذي نواجهه.

هو الخطاب الذي انخفض سقفه إلى درجةٍ جعلته يعطي مساحةً لكثير من المؤسسات المنضوية تحت إطار الأحزاب ولجنة المتابعة بأن تتماهى مع الحالة التي تحاول "إسرائيل" فرضها على الفلسطينيين في الداخل، فقد ذهبت باتجاه تفسير الصيغ القانونية الجديدة بخصوص "التحريض"، والقانون الجديد الذي يجرّم "الاستهلاك المنهجي للمحتوى الإرهابي"، بشكل أقرب إلى تحذير "المواطنين" من مخالفة القانون!

تعمل "إسرائيل" في الوقت الراهن وفق حالة الطوارئ التي تمنح مساحةً واسعة جداً لأجهزتها في القمع والإرهاب، وتعمل المنظومة القانونية في غير حالات الحرب بما يتوافق مع الرؤية الأمنية والسياسية في دولة الاحتلال، فلنا أن نتخيّل كيف ستعمل هذه المنظمة خلال فترة حربٍ وجودية يصفها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بـ"حرب الاستقلال" الثانية؟

مع كلّ هذا، لم تجد لجنة المتابعة مساراً غير التقدّم بالتماسات للمحكمة العليا الإسرائيلية تطالب فيها الشرطة "بالكفّ عن سياساتها بمنع التظاهر والوقفات الاحتجاجية التي تنظمها القيادة السياسية للعرب ضد الحرب".

بدورها، أفادت المحكمة بعدم الحاجة إلى ترخيص لمظاهرة من هذا النوع، في التماس مقدّم بخصوص احتجاج مماثل وقع في تل أبيب، بينما تستمر الشرطة الإسرائيلية -كقاعدة عامة- في وضع سياسة لحظر الاحتجاجات ضد الحرب في البلدات العربية.

وهنا، تُصبح الأزمة في الشرطة جهازاً قائماً بحدّ ذاته، وليس في المنظومة الإسرائيلية كلها، وهكذا تعيد الدول الحديثة إنتاج معادلات القوة بين مؤسساتها، أما الدول الحديثة والاستعمارية؛ فتأخذ عملياتها في إنتاج السيطرة والقوة أبعاداً أكثر تعقيداً وعنفاً.

هل تستفيق الأحزاب من أوهامها؟

قبل نحو شهر، أصدر مركز مدى الكرمل (المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة) الذي يحمل أجندة حزب "التجمّع الوطني الديمقراطي" ورقة موقف بعنوان "الحرب على غزّة: سياسة الإخراس والترهيب والملاحَقة تجاه الفلسطينيّين في إسرائيل".

وتناولت فيها أدوات "كَمّ الأفواه، والإخراس والترهيب، بغية منعهم من التعبير عن مواقف معارِضة للحرب ورافضة للقتل والدمار ومسانِدة للمدنيّين في غزّة"، وتختم بفقرة قصيرة تصل فيها إلى استنتاج أن المرحلة "توضح أهمّيّةَ تضافُرِ الجهود والعمل الجماعيّ، وإقامةِ مؤسَّسات نقابيّة وخدماتيّة جماعيّة، وإعادةِ تنظيم لجان الطلبة الجامعيّين، في سبيل صدّ سياسة الإخراس والترهيب والملاحَقة تجاه الفلسطينيّين في إسرائيل".

بدا لافتاً التمسّك غير المفهوم بالقراءة القاصرة لطبيعة المواجهة مع دولة الاحتلال، رغم كلّ المعطيات الواضحة، إذ تصل الورقة إلى استنتاج أن المؤسسة الإسرائيلية تتعامل مع فلسطينيي الداخل في أوقات الأزمات الحادّة على أنهم أعداء، أو أعداء محتملون، مع أن المؤسسة الإسرائيلية لم ترَ يوماً في الفلسطيني أينما وُجد إلّا عدوّاً يجري التعامل معه، إمّا بسياسات الاحتواء وصهر الوعي، وإما السياسات العسكرية والأمنية.

ووصلت ورقة المركز إلى نتيجة تفيد بأن "الحرب الحالية توضّح هشاشةَ المواطَنة الممنوحة للفلسطينيّين في إسرائيل وخواءَها، وخضوعَها التامّ للدوافع والاحتياجات الأمنيّة والاحتياجات للإجماع الصهيونيّ وشروطه، وأن الإجراءات الإسرائيليّة الحاليّة تجاه المواطنين الفلسطينيّين قد تتحول إلى حالة ثابتة بعد الحرب إذا اقتنع الإجماع الصهيونيّ بأنّها تعمل لمصلحته، ولا تؤدّي إلى ردّ فعليّ أو تجبي ثمناً سياسيّاً".

صحيح أن الاستنتاج مبالغ في تأخّره، لكن ذلك لا يمنع من السؤال، متى يمكن أن تترجم هذه القناعة إلى مجموعة قرارات جريئة من الأحزاب العربية، وأهمّها إعلان الانسحاب من قاعات الكنيست الإسرائيلي لإتاحة البحث عن أدوات سياسة جديدة في المواجهة؟

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً