United Nations / صورة: Getty Images (Stefan Cristian Cioata/Getty Images)
تابعنا

كتب كريغ مخيبر، وهو محامٍ دولي مختصّ في مجال حقوق الإنسان في خطاب استقالته أن العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة إبادة جماعية، متهماً الأمم المتحدة بـ"الفشل" في وقف الجرائم في فلسطين.

أثارت استقالة كريغ مخيبر من رئاسة مكتب مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في المقر الدائم للمنظمة الدولية في نيويورك ردود فعل كثيرة.

وفيما حاول ستيفان دوجاريك المتحدث باسم الأمين العام، التقليل من أهمية الاستقالة، معتبراً إياها بداية تقاعد مبكّر طلبه مخيبر بنفسه قبل أكثر من شهرين، كشف مخيبر أنه أرسل رسالة تحذير مسبقة إلى المفوض السامي، حذّر فيها من تقديم استقالته إذا لم يتغير نهج الأمم المتحدة تجاه الملف الفلسطيني.

وقدّم المسؤول الأممي استقالته يوم 28 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بسبب ردّ فعل المنظمة الأممية على الحرب في قطاع غزة، مطالباً الأمم المتحدة أن تستخدم في تقييم ممارسات إسرائيل معايير مماثلة لتلك التي تستعمل عند تقييم انتهاكات حقوق الإنسان في البلدان الأخرى حول العالم.

وكتب مخيبر، وهو محامٍ دولي مختصّ في مجال حقوق الإنسان التحق بالأمم المتحدة عام 1992، في خطاب استقالته أن العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة إبادة جماعية، متهماً الأمم المتحدة بـ"الفشل" في وقف الجرائم في فلسطين، مثلما "فشلت" في أحداث إبادة جماعية في البوسنة ورواندا وميانمار.

انتقاد حاد للفصل العنصري

وقال مخيبر إن الأمور زادت سوءاً وبخاصة بعد أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول، ما أصابه بالذعر كشخص يعرف فلسطين وعمل في فلسطين، مؤكداً أنه لم يجد مفراً من الاستقالة.

وذكّر -في مقابلات صحفية- بأن النكبة الفلسطينية التي تعود لعام 1948 تزامنت مع إقرار نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) في جنوب إفريقيا، وفي الوقت الذي كرّست الأمم المتحدة كل جهدها لهزيمة نظام الأبارتايد ونجحت في ذلك، إلا أن كل جهودها لدرء نتائج النكبة عن الفلسطينيين لم تؤدِّ إلى أي نتائج.

لقد أُهمل الفلسطينيون واستُبدل حديث الانتهاكات بالحديث عن "حل الدولتين"، وجميع من هم في الأمم المتحدة من مسؤولين يعرفون تماماً أن حل الدولتين أصبح مستحيلاً إذ لم تبق أرض تقام عليها الدولة بسبب الاستيطان.

وبدل أن تركز الأمم المتحدة على الأوضاع في الأرض المحتلة المتعلقة بحقوق الإنسان وممارسات الاحتلال والقهر والاعتقالات والفصل العنصري والآن "حرب الإبادة"، بقيت أسيرة خطاب حل الدولتين.

وأكد مخيبر أنه تلقى تهديدات بالقتل بعد استقالته، وقال: "بدأت أتكلم داخلياً وعلناً عن الموضوع في مارس/آذار الماضي، عندما تصاعدت الاعتداءات الإسرائيلية على سكان الضفة الغربية، بخاصة ما حدث في بلدة حوارة على أيدي المستوطنين. لم أنجز عملاً بطولياً، لكنني لم أستطع البقاء صامتاً".

ظاهرة نادرة الحدوث

الغريب أنه لم يستقل أحد من المنظمة الأممية بعد مخيبر، احتجاجاً على مجازر غزة متبعاً نفس الخطوات.

بل على العكس، حاول السفير الإسرائيلي جلعاد إردان الضغط على الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، مطالباً إياه بالاستقالة لأنه ذكر في خطاب جملة أثارت حنق الإسرائيليين، قال فيها إنَّ "أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول لم تأتِ من فراغ، بل بسبب ممارسات 56 سنة من الاحتلال".

وتظل ظاهرة استقالة كبار موظفي الأمم المتحدة احتجاجاً على انتهاكات أو تجاوزات في فلسطين أمراً نادراً، إذ وقعت بعض الحالات التي انتصر فيها الضمير على إغراءات الوظيفة.

مستقيلون بسبب المعاناة الفلسطينية

من أبرز استقالات مسؤولي الأمم المتحدة يمكن ذكر استقالة ريما خلف الهنيدي، المديرة التنفيذية للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، يوم 17 مارس/آذار 2017، احتجاجاً على قرار سحب تقرير أعدّته اللجنة حول نظام الأبارتايد في إسرائيل، بتعليمات من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.

تعرض غوتيريش حينها لضغط شديد من السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي، التي طالبت بسحب التقرير، وانصاع الأمين العام للضغوط في آخر المطاف.

وذكَرت خلف في توضيح أسباب استقالتها أنه "خلال شهرين تبلَّغتُ تعليمات بسحب تقريرين يدينان إسرائيل، لكنني أصر على استنتاجاتي في التقرير بأنَّ إسرائيل تمارس سياسة الفصل العنصري".

ومن ضمن نماذج الموظفين الكبار في الأمم المتحدة الذين استقالوا من مناصبهم البيروفي ألفارو دي سوتو، الذي اختاره الأمين العام الأسبق خافيير بيريز دي كويار مستشاراً سياسياً له، ثم عيّنه الأمين العام كوفي عنان في 6 مايو/أيار 2005 منسقاً لعملية السلام في الشرق الأوسط وممثلاً للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

واستقال دي سوتو في مايو/أيار 2007 بطريقة هادئة، احتجاجاً على ما يعانيه الشعب الفلسطيني من حصار وممارسات، بخاصة في غزة، وكانت الاستقالة عن طريق تقديم تقرير سريّ تحت عنوان "بيان نهاية مهمة" قدمه لكبار الموظفين والمستشارين في مقر الأمم المتحدة.

ينتقد التقرير الذي سُرّب ونشرته صحيفة "الغارديان" بعض الممارسات التي تنفذها حركتا حماس وفتح، ولكنه يضع اللوم أساساً على إسرائيل والمجتمع الدولي.

يؤاخذ دي سوتو في تقريره السري إسرائيل والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بسبب العقوبات التي فُرضت على الشعب الفلسطيني عقاباً على انتخاب حركة حماس، ويؤكد أنه "تحت ضغط من الولايات المتحدة استسلمت الأمم المتحدة ولم يعد دورها محايداً في مفاوضات السلام في الشرق الأوسط".

استقال أيضاً جيمس ولفنسون، رئيس البنك الدولي السابق، الذي عُين ممثلاً للجنة الرباعية في غزة في أبريل/نيسان 2005، واستقال من منصبه بعد 11 شهراً من تعيينه للأسباب نفسها التي استقال بسببها ألفارو دي سوتو، عندما تأكد أن الولايات المتحدة تقف حجر عثرة في تنفيذ برامجه في فلسطين المحتلة.

استقالات ضد الهيمنة الأمريكية

توجد أسباب أخرى أيضاً دفعت مسؤولين أمميين إلى الاستقالة، ومنها الهيمنة الأمريكية على القرار، ومن ضمن هؤلاء المستقيلين الآيرلندي دينيس هاليدي، استقال احتجاجاً على الأوضاع في العراق.

ووصل المسؤول الأممي إلى بغداد في 1 سبتمبر/أيلول 1997 مسؤولاً عن برنامج الأمم المتحدة الإنساني للعراق، المتمثل في برنامج "النفط مقابل الغذاء".

لكنه سرعان ما اكتشف أن هناك جريمة دولية تُرتكب ضد الشعب العراقي، وأن الأمم المتحدة ما هي إلا غطاءٌ لتلك الجريمة التي تطال جميع فئات الشعب العراقي.

استقال هاليدي من منصبه في 31 أكتوبر/تشرين الأول 1998، وفسّر استقالته في تصريح قائلاً: "يطلب مني عادةً تفسير الأسباب التي دعتني إلى الاستقالة من منصبي في العراق بعد 30 سنة من العمل في المنظمة الدولية، وكيف تجرأت على أكبر الدول الأعضاء في مجلس الأمن؟ (...) إنني أعلن استقالتي رفضاً لأن أستمر في تلقي أوامر من مجلس الأمن، وهو المجلس نفسه الذي فرض عقوبات إبادة بشرية، واستمر في فرضها على الشعب العراقي البريء. لا أريد أن أكون مشاركاً في الجريمة".

هناك أيضاً الألماني هانز فان سبونك الذي استقال من المنصب نفسه، فبعد استقالة دينيس هالدي اختار الأمين العام آنذاك كوفي عنان خلفاً له هو فان سبونك، الذي توصّل إلى النتيجة نفسها التي توصّل إليها خلفه.

قدَّم فان سبونك استقالته في فبراير/شباط 2000 هو ومواطنته يوتا بيرغهارد، رئيسة برنامج الأغذية العالمي، احتجاجاً على الآثار المدمرة للعقوبات الشاملة التي يفرضها مجلس الأمن على الشعب العراقي.

هؤلاء من القلائل الذين وضعوا في مواقف كان عليهم أن يختاروا فيها بين الصمت الذي يقابله الاستمرار في تلقي الامتيازات والأضواء والترقيات، أو الانتصار لضمائرهم ليقفوا مع الضحية ضد الجلاد. ونتمنى أن لا يكون كريغ مخيبر آخر أصحاب الضمائر الحية في المنظمة الدولية.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً