وضَع قادة ديمقراطيات غربية أصابعهم في آذانهم طَوال مئتَي يوم من التحرّكات الجماهيرية الغفيرة، ثم أقضّت استدارة محسوبة في وجهة التظاهر وأشكاله مضاجعهم، ففلسطين صارت حاضرة بقوّة داخل أمريكا وتصنع أحداثها إلى درجة الغليان الجماهيري.
إنها جماهير أغضبتها تواطؤات الإبادة في قطاع غزة فانطلقت خلال شهور متواصلة في مسيرات شوارع ووقفات اعتصام، وجلست أرضاً في مرافق حيوية وسدّت جسوراً كبرى وحاصرت مصانع أسلحة، ثمّ جاءت نقطة التحوّل مع نصب خيام في حرم جامعة كولومبيا والاعتصام داخلها. حانت لحظة كولومبيا بعد اختمار الحالة الجماهيرية المتفاعلة مع حرب الإبادة، فصنع طلبة الجامعات انتفاضة عارمة تهتف لغزة وترفع راية فلسطين.
اضطرّ بنيامين نتنياهو إلى الخروج في مرافعة تحريضية متلفزة ضدّ طلبة الجامعات الأمريكية في 24 أبريل/نيسان الماضي، فأظهر قلق الاحتلال من تحرّكات الطلبة. تمدّدت الحالة سريعاً من الجامعات الرائدة إلى غيرها، وعبرت المحيط صوب صروح عريقة منها السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس.
غضب جماهيري
أزعجت التطوّرات نخبة سياسية داعمة للإبادة في غزة، كما تبيّن من كلمات قادة الكونغرس المناهضين لحقوق الشعب الفلسطيني على درجات جامعة كولومبيا، عقب مرافعة نتنياهو تلك. لم تتورّع نخبة تنتمي عمرياً إلى زمن مضى عن الاغتراف من قاموس الإبادة اللفظي، فنعتت الطلبة المعتصمين بأوصاف تنزع الإنسانية عنهم من قبيل "الفيروسات".
انقضّت ديمقراطية الأروقة المحظية على ديمقراطية الميدان والجامعة، وبلغ الأمر بالنائب عن جورجيا ريك إلين أن حذّر خلال استجواب الكونغرس رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق المعروفة بـ"مينوش" من أنّ انتقاد الاحتلال الإسرائيلي ومناهضة أهوال الإبادة سيجلبان على الجامعة "لعنة الربّ"، محتجاً في المساءلة المكارثية بالكتاب المقدّس من دون أن تجرؤ سيدة كولومبيا المنصاعة للإملاءات على الهمس بأيّ نقد.
أدركت جوقة دعم الاحتلال أنّ اعتصام جامعة كولومبيا يتمدّد ويتأهّل لإشعال انتفاضة عالمية تُناصِر حرية فلسطين وتُناهِض الاحتلال وتقارع حرب الإبادة في معاقل رعاتها، بعد انعقاد شروط الغضب الجماهيري. قرع مخيم الاعتصام الأوّل نواقيس التحذير في تلك المعاقل، فهو طوْر جديد من الفعل الجماهيري الضاغط بعد اختمار خبرات الميادين عبر مئتَي يوم من المظاهرات والفاعليات الحاشدة التي تواصلت بلا هوادة.
قرأت النخبة السياسية الأمريكية المتغطرسة حدث كولومبيا الأوّلي بعناية واستشرفت مآلاته من واقع خبرات سابقة، مثل موجة الاعتراض على حرب فيتنام في نهاية الستينيات، ومناهضة نظام التفرقة العنصري في جنوب إفريقيا خلال الثمانينيات، فاندفع القوْم في حملة هوجاء لإخماد الغضب الملتهب بسكب الزيت عليه.
انحازت مينوش إلى النخبة المهيمنة على حساب استقلالية جامعتها وحرية التعبير وحقّ الاعتراض في فضاءاتها، ولجأت إلى هراوة القمع التي حفّزت جماهير الطلبة والأساتذة على التضامن مع المعتصمين، فانفلتت الموجة عبر جامعات النخبة ومنها إلى عشرات الفضاءات الأكاديمية الأخرى في عموم الولايات ثمّ عبرت الموجة المحيط.
قمع مفرط
صار مخيم المعتصمين نموذجاً ملهماً للمحاكاة، فانتشرت نسخه كالفطر في الجامعات الأخرى، وتعاظم القمع الذي جاد على الشاشات والشبكات بمشاهد مثيرة عن سطوة عناصر الشرطة والأمن وهم ينقضّون على الطالبات والطلبة ويعتقلون المئات منهم (قرابة 2000 حتى 2 مايو/أيار) ويقتلعون خيام الاعتصام وراياته، ويصفِّدون أساتذة مرموقين ثمّ يسوقونهم إلى غرف الاستجواب في أقسام الشرطة.
منحت تغطيات الاقتحام فرصة إعلامية ذهبية لعبور الشعارات والمقولات المنقوشة على اللافتات إلى العالم أجمع بصفة تحرِّك شغف الجماهير برسائلها ومغزاها. بلغت السطوة مبلغها ليلة الأول من مايو/أيار عندما اقتحمت تعزيزات غفيرة من شرطة نيويورك اعتصام جامعة كولومبيا حيث تقرّر أن ترابط فيه أسابيع عدّة حسب طلب مينوش.
اتّضح من سيرة الحدث أنّ نُخَب دعم الإبادة تجاهلت مظاهرات نمطية دؤوبة طوال نصف سنة، لكنّها لم تحتمل أن يصنع طلبة جامعات النخبة التاريخ بإزاحة يسيرة في طريقة التفاعل. أدرك الطلبة أنّ مسالك دعم الاحتلال والإبادة تمرّ بصرحهم الأكاديمي العريق أيضاً، مثل غيره من الجامعات والمعاهد.
خسرت النخبة السياسية المتغطرسة الجولة مبكِّراً عندما اندفعت إلى معركة هوجاء مع الفضاءات الجامعية حسب التقاليد المكارثية، لكنّها فعلت هذا وأصرّت عليه في زمن الصورة والهواتف المحمولة التي تنقل المشاهد المستفزّة إلى الجماهير في كل مكان.
حراك عالمي محتمل
ترقى هذه الحالة الطلابية إلى مصافّ انتفاضة عالمية محتملة انقدحت شرارتها من جامعات النخبة العريقة، التي هي أبرز معاهد العالم بلا منازع، وخرِّيجوها سيتصدّرون مواقع الريادة عبر القارّات. سرعان ما تجد الظواهر والتفاعلات المرئية في هذه الصروح البارزة سبيلها إلى الأوساط الطلابية والشبابية حول المعمورة، ما يمنح تحرّكاتها امتيازاً ناظم الإيقاع في المشهد الجماهيري العالمي في الشكل والروح والمحتوى، وهذا ما حصل تقريباً من تلقائه.
مثّلت انتفاضة الجامعات طوراً جديداً في الاعتراض، فلم يكتفِ بالتظاهر النمطي في الميادين وبعض المواقع البارزة على النحو الذي جرى عبر مئتَي يوم سبقته، فقد اتضح أن نصب خيام اعتصام معدودة في فضاء جامعة مرموقة حرّك في ساعات معدودة ما لم تحركه مئات المظاهرات والوقفات والصيحات مقابل البيت الأبيض والكونغرس والمقارّ السيادية الأوروبية في شهور سبعة.
إنّ صرخة الألم التي أطلقها نتنياهو وحلفاؤه في الكونغرس من جرأة طلبة كولومبيا وأقرانهم في جامعات الريادة على الاعتراض برهنت عملياً على أهمية هذه المقاربة الجماهيرية في الاعتراض.
حراكات سابقة ومخاوف الاحتلال
كانت غضبة الجامعات الأمريكية تحديداً هاجساً أرّق الاحتلال وأذرعه وداعميه خلال العقود الماضية، فتصاعدت حملات تحريض وتضييق ووصم سعت إلى قطع الطريق على بزوغ هذا المشهد أو كبحه.
كانت مرحلة انتفاضة الأقصى التي اندلعت عام 2000 حافلة بتصعيد هذه الجهود، ومنها مشروع تحريض منظّم أطلقه المتعصِّب دانيال بايبس عام 2002 حمل اسم "مراقبة الحرم الجامعي" أو "Campus Watch"، تولّى مطاردة النشاطات والندوات التي تنتقد الاحتلال الإسرائيلي.
وما إنْ برزت حملات المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات في أعقاب صدور "نداء المقاطعة الفلسطيني" عام 2005، حتى جاء الردّ باندفاعة إسرائيلية ضارية لكبح الظاهرة التي تخلّلت الجامعات الأمريكية أيضاً. ذلك أنّ حملات المقاطعة استهلمت تجربة عزل نظام التفرقة العنصرية (الأبارتايد) البائد في جنوب إفريقيا، وكان للجامعات الأمريكية دورها في تلك التحرّكات.
هكذا ظلّت انتفاضة الجامعات هاجساً متأصِّلاً لدى محتلِّي فلسطين من أن يطوِّقهم الذمّ العالمي والعزلة الدولية. يجوز الافتراض بأنّ هذا الهاجس الوجودي كان محرِّكاً جوهرياً لتحريض قيادة الاحتلال وأذرعه ضدّ حملات المقاطعة على مرّ السنين الماضية، أكثر من قلقه من عواقبها المحتملة على اقتصاده ومصالحه.
تمثِّل انتفاضة الجامعات طوراً جديداً نقل التفاعل الجماهيري الداعم لفلسطين إلى آفاق جديدة من خلال الخبرة والتشبيك والقفزة النوعية في الخطابات والتجارب التي تتفاعل في هذا الموسم، وفي هذا الطوْر صنعت اعتصامات الطلبة أزمة في الدول الداعمة للاحتلال والإبادة، فارتدّت حرب غزة إلى أحشاء داعميها. انهمكت إدارة بايدن في "منع اتساع الصراع" كي يبقى القتل والتدمير محصورين في رقعة القطاع، فإذ بفوهة البركان تبعث حممها من جامعات النخبة الأمريكية لتؤكِّد أنّ فلسطين ليست وحدها في العالم.
من عِظات الحراك الجامعي الملتهب وما شابهه في دول أوروبية أنّ الاستمرار في دعم الاحتلال والإبادة يفرض على الضالعين فيه المبالغة في تبريره والتستّر عليه، حتى اقتضى ذلك تعسّفاً في كبح الوعي الداخلي المتنامي بحقيقة التورّط الأمريكي في مذبحة غزة المرئية، ولم يتورّع القوم عن اللجوء إلى التحريض الأعمى ودعوات الإجهاز على حرية التعبير في الفضاءات الجامعية بذرائع محبوكة، استدعاها بايدن ذاته في كلمته عن انتفاضة الجامعات في الثاني من مايو/أيار.
إنّ تحويل الجامعات الأمريكية العريقة إلى مسرح للترهيب والقمع السلطوي هو نتيجة منطقية بالتالي لاستمراء مساندة الاحتلال ودعم إبادة الشعب الفلسطيني، ولا بدّ لنهج دعم المذابح الرهيبة أن يُسمِّم الأجواء في فضاء الديمقراطيات الضالعة في ذلك.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.