انطلق الموسم الانتخابي فحسمت وسائل إعلام أوروبية نتائجه مبكّراً. رسمت تغطيات وتحليلات وتعليقات وأغلفة ملامح خسارة ستلحق بالقيادة التركية في اقتراع تاريخي.
ثمّ اتّضح أنّ تلك المتابعات اكتفت بقراءات سطحية أو زوايا نظر متحيِّزة، ولم تمنح جمهورها في أنحاء أوروبا تقديرات أمينة أو تصوّرات واقعية عن المشهد التركي وتفاعلاته. نسجت الأغلفة والعناوين والمضامين والتعليقات توقّعات حالمة، بمنأى عن واقع السلوك التصويتي في مئوية الجمهورية التركية.
جاء الاهتمام بهذه الجولة التركية الساخنة فائقاً في المتابعات الإعلامية الأوروبية؛ بصفة لم تحظَ بها جولات اقتراع شهدتها دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي في الموسم ذاته؛ منها اليونان وإسبانيا وفنلندا.
لكنّ القراءات الأحادية والمتحيِّزة تسيّدت المتابعات؛ فاستسهل بعضها التبشير بنهاية عهد أردوغان و"العدالة والتنمية"؛ وبدا كأنّ بعضها يحرِّض على التغيير، كما فعلت منابر توصف بالرصينة منها "إيكونوميست" ذات التأثير الواسع على النخب.
لم تنطلق تحيّزات المواكبة الإعلامية من فراغ، فالموقف السلبي من التجربة الديمقراطية التركية ظلّ مشفوعاً بتحفّز شديد ضد القيادة التركية الحالية.
نسجت خطابات سياسية وإعلامية أوروبية خلال العقد الأخير صورتها الخاصة عن النظام السياسي التركي تنعته بالاستبداد والعداء للمرأة وتقويض الحريات وقمع المعارضة، حتى أنّ مقدِّم أخبار التلفزة العامة النمساوية مساء 30 مايو/أيار قال إنّ أردوغان يريد "دولة دينية سلطوية" كحقيقة مفروغ منها. على أنّ الحبكة اقتضت تورية سيرة النظام السياسي التركي بمراحله المتعدِّدة، وإغفال أنّه تحرّر خلال عهد "العدالة والتنمية" تحديداً من سطوة الجيش وتجاوز عهد الانقلابات العسكرية المتعاقبة.
لا عجب، بالتالي، أن أثارت تعليقات منشورة ومبثوثة في بيئات أوروبية تساؤلات استباقية عن مدى نزاهة الانتخابات التركية أو عن قابلية تسليم قيادة أردوغان بالنتائج إن فازت المعارضة مثلاً.
وحده السلوك التصويتي للجماهير التركية عبر جولتيْ الاقتراع هو ما تكفّل بانقشاع توقّعات ساذجة منسوجة من وحي المواكبة الإعلامية عبر أوروبا، فاتّضح مدى انفصال كثير من التغطيات والتحليلات والتقارير والمداخلات عن الواقع التركي على الأرض.
جاءت تفاصيل الجولتيْن الانتخابيتيْن رداً جليّاً على أحكام مُسبقة وجدت في وسائل إعلام أوروبية مرتعاً لها. فكيف لنظام سلطوي مزعوم أن يعجز، مثلاً، عن تمرير نصف نقطة مئوية تضمن حسم السباق الرئاسي من الجولة الأولى؟
بات واضحاً بعد انقضاء الجولتيْن أنّ القراءات الأوروبية الاستباقية المتعسِّفة لاتجاهات التصويت رجّحت فوز المعارضة بضربة انتخابية قاضية أو أوْحت بتوازن الكفّتين على الأقلّ، ما كشف في النهاية مشكلات منهجية في فهم المشهد التركي واستشراف تفاعلاته والركون السهل إلى تعبيرات التذمّر التي جرى التقاطها انتقائياً من الشارع في ظلال كارثة الزلزال والمتاعب الاقتصادية.
خسرت وسائل الإعلام التي انساقت خلف منحاها الرغائبي رهاناتها على مستوى النتائج الإجمالية بالنسبة إلى موقع الرئاسة وحصص البرلمان معاً، وكذلك على مستوى تفاصيل ذات دلالة أيضاً.
ما كان لخلل القراءة أن يقع لولا هيمنة مواقف مسبقة وتحيّزات مزمنة على السياسات التحريرية واتجاهات التناول للشأن التركي في العديد من وسائل الإعلام الأوروبية، علاوة على إشكالية مصادر المعلومات والاعتماد على جهات مقرّبة من المعارضة وتقارير مراسلين وموفدين استسهل بعضهم حسم النتائج مسبقاً على غير ما انتهت إليه.
في مسألة السياسة التحريرية، لا حياد عند وسائل الإعلام الغربية في حق الرئيس التركي ابتداء من العديد من التغطيات الإعلامية خلال العقد الأخير، وبلغ التحامل ضدّه حدّ الازدراء والشيطنة التي لا يحظى بمثلها اليوم سوى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد غزو أوكرانيا. كان صيف سنة 2016 نقطة تحوّل في هذا الاتجاه، بعد أن أحبط الشعب التركي انقلاب 15 يوليو/تموز العسكري. ذلك أنّ كثيراً من وسائل الإعلام الأوروبية واكبت تطوّرات ليلة الانقلاب بفتور واضح ولم تفزع على مصير الديمقراطية التي استهدفها قصف الانقلابيين، واستعجل بعضها حسم الموقف لصالح الدبابة.
كانت ليلة صمت أوروبي مديد رغم مواقف سياسية متأخِّرة نسبياً، ثمّ انقلبت التغطيات والعناوين والأغلفة الأوروبية في الأسابيع اللاحقة إلى وضع أردوغان في قالب نمطي مخصّص لمنبوذي السياسة الدولية؛ بعد أن خرج من دخان المحاولة الانقلابية أكثر قوّة وصلابة.
كان لمواسم التوتّر في العلاقات التركية – الأوروبية مفعولها أيضاً في إذكاء المنحى المناهض لقيادة الرئيس أردوغان، وفي صميم ذلك انزعاج أوروبا من صعود شريكها الأوروآسيوي وعدم جاهزية بيئاتها السياسية والإعلامية لرؤية تركيا جديدة تتصرّف مع شركائها ومنافسيها من موقع الندِّية والتكافؤ.
لا عجب أن يظهر هذا المنحى من جديد لدى مراسلي محطات تلفزة أوروبية، استهلّ بعضهم تقاريرهم الميدانية خلال الموسم الانتخابي من خيام المتضرِّرين من الزلزال الكبير؛ بغية حصد تعليقات ناقدة للحكومة وإظهار تذمّر عارم منها. استثارت التغطيات الانتقائية توقّعات متسرِّعة بأنّ مناطق الزلزال ستعاقب أردوغان وحزبه، وسترجِّح كفّة المعارضة، ثمّ كشفت النتائج في الجولتيْن سذاجة الركون إلى انطباعات أوّلية لم يقع تمحيصها.
ثم إنّ تركيز المواكبة الإعلامية الأوروبية على موقفها التقليدي السلبي من القيادة التركية، صرفها أيضاً عن قصور ظاهر في وجهة المعارضة وأدائها وخطابها، كي لا تمسّ نزعة "الطيِّب والشرير" التي هيمنت على تلك المواكبة. غيّب التحيّز فرصة الإشارة، مثلاً، إلى إساءات المعارضة لأهالي مناطق الزلزال بعد تصويتهم لتحالف الشعب في الجولة الأولى، أو انزلاق قادة المعارضة الشعبوي نحو تعبيرات عنصرية ومبالغات بلغت حدّ ترويج موادّ مزيّفة بصفة مباشرة أو غير مباشرة، كما تبيّن مثلاً في التلاعب التضخيمي بأعداد اللاجئين السوريين فجأة إلى منسوب عشرة ملايين لاجئ.
ومن أغرب وجوه التجاهل إغفال مركزية ملفّ اللاجئين في خطاب المعارضة وانعكاساته الجسيمة المرتقبة على أوروبا في حال ترجمته إلى سياسات عملية في الواقع. ألم يكن من شأن التوجّه إلى ترحيل ملايين السوريين قسراً، كما وعدت المعارضة بذلك، أن يدفع أعداداً غفيرة من اللاجئين إلى التوجّه بأي ثمن نحو أوروبا؟!
لم يمنع ذلك كلّه المواكبة الإعلامية الأوروبية من مواصلة تقديم كليجدار أوغلو وحلفائه في صورة ديمقراطية.
لا عجب أن تنفلت نتائج الانتخابات في الجولتيْن من نطاق التوقعات الأوروبية، تبعاً لخلل التناول الإعلامي. تبقى المفاجآت محتملة في أي جولة انتخابية حرّة، على نحو قد يخالف اتّجاهات الاستشراف المسبقة؛ لكنّ فجوة التوقّعات عن المآلات تتّسع عند الرضوخ لإغراءات التحيّز والتحامُل أو الوقوع تحت تأثير الاستقطابات.
كان للمركزية الأوروبية مفعولها في هذا الانزلاق، فهي تُحرِّض على إصدار أحكام سابغة على تجارب أمم أخرى وإسباغ تصوّرات نموذجية على الذات، رغم أنّ الديمقراطيات الأوروبية لا تبدو اليوم في أفضل أحوالها.