وذلك هرباً من الحر الشديد، الناتج عن تدهور قطاع الكهرباء والخدمات في المدينة، وتضاؤل فرص عودة الحكومة إلى المدينة التي يتحكم فيها بشكل كامل المجلس الانتقالي المدعوم من الإمارات.
تكافح المملكة العربية السعودية اليوم للحفاظ على مصداقيتها عبر تطبيق اتفاق الرياض الذي يفقد فرص نجاحه يوماً إثر يوم، فيما تتعاظم تحديات فرضه بالوسائل الخشنة، في ظلّ تطوراتٍ أكثرُها سوءاً أن الإمارات باتت منحازة بشكل يتناقض حتى مع مبدأ التحالف العسكري المستمر حتى اليوم والذي تقوده السعودية ونشأ نتيجة حاجة سعودية-إماراتية مشتركة لاحتواء التطورات الجيوسياسية في اليمن بعد انحراف مسار انقلاب الحوثيين المدعومين من إيران على السلطة الشرعية في 21 سبتمبر/أيلول 2014، عن الأهداف المتفق عليها.
ومن بين أسباب عديدة أدّت إلى تطورات سلبية مؤخراً في العلاقات بين الرياض وأبو ظبي يبقى ملفّ اليمن أحد أهمّ أسباب التوتر، وهذا الملفّ أودعت فيه أبو ظبي العديد من التحديات والصعوبات وأضمرت من خلاله نية لتأكيد مكانتها الجيوسياسية في المنطقة والعالم على حساب دولة كبيرة كالسعودية.
لكن طموحات أبو ظبي بقيت رهينة سلسلة من القيود التي وضعتها الرياض، ومن أهمها الحضور العسكري السعودي في أهمّ المناطق التي تطلعت أبو ظبي لبناء نفوذ خاصّ بها يصل إلى حد الاستحواذ والتصادم مع السيادة اليمنية ومنها محافظة أرخبيل سقطرى اليمنية المشاطئة للمحيط الهندي، وسلسلة المواني والمدن الواقعة في بر اليمن وخصوصاً ساحله الطويل على خليج عدن وبحر العرب.
ويبقى التحدي الأكبر في ما يخصّ عودة الحكومة اليمنية، كتعبير دقيق عن نجاح ولو جزئي في تنفيذ اتفاق الرياض، هو عدم قدرة هذه الحكومة على العودة بالفعل، نتيجة غياب الضمانات التي ينبغي أن توفرها السعودية باعتبارها الراعي الرئيس لهذا الاتفاق، وهو أمر اضطرّ وزراء الحكومة إما إلى البقاء في الخارج، وإما إلى التموضع في مدن يمنية أخرى لممارسات صلاحياتهم ولكن بقدرة أقل على الوصول إلى جميع المناطق التي يفترض أن تكون تحت السيطرة الكاملة للسلطة الشرعية.
أقفلت الخارجية السعودية موضوع النقاش تقريباً في موضوع عودة الحكومة بالبيان الذي أصدرته فجر الثاني من شهر يوليو/تموز الجاري، وهو توقيت يشير إلى صعوبة المحادثات التي جرت في الرياض بين وفدَي الحكومة والمجلس الانتقالي خلال الأيام السابقة لهذا البيان الذي انتقد "التعيينات السياسية والعسكرية التي قام بها المجلس الانتقالي الجنوبي» واصافاً إياها بأنها «لا تنسجم مع ما تم الاتفاق عليه بين الطرفين".
وكما كان متوقعاً فإن اتفاق الرياض الموقَّع في الخامس من شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2019 في أعقاب سيطرة قوات المجلس الانتقالي على عدن وطرد الحكومة الشرعية منها نهائياً إثر انقلاب 10 أغسطس/آب من نفس العام، مضى باتجاه تمكين المجلس الانتقالي وقواته، سواء أرادت ذلك الرياض أم لم ترد، فقد كانت مضطرة على ما يبدو إلى أن تلبّي لشريكتها في التحاف أبو ظبي بعضاً مما تخطط لإنجازه في جنوب اليمن.
حتى اللحظة لم تُقْدِم السعودية على خطوة جوهرية حقيقية تضع حداً فعلياً لتغوُّل المجلس الانتقالي المدعوم من أبو ظبي ونزعته نحو فرض منطق الانفصال، فهي المتحكم العسكري الأكبر في مدينة عدن حالياً، دون أن نغفل حقيقة أن القوات التي تخضع للمجلس الانتقالي باتت تشكّل تحدياً حقيقياً وخطيراً للقوات السعودية في مدينة عدن.
لكن مع ذلك توجد مؤشرات على أن القوات السعودية تعمل بوتيرة منتظمة لتأمين المواقع السيادية بالعاصمة المؤقتة عدن، التي يُفترض أنها تشكّل مقرات أساسية للحكومة الموجودة في المنفى، وكان آخرها وصول قوات عسكرية سعودية محمولة جوّاً إلى مطار عدن ونقلها على الفور إلى قصر معاشيق الرئاسي الموجود على منحدر صخري على البحر جنوب مدينة كريتر أقدم مدن محافظة عدن.
هذه الخطوة العسكرية السعودية المحدودة أطلقت سلسلةً من الشائعات بشأن عودة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي إلى عدن، وبعض هذه الشائعات ذهب إلى أن الرئيس قد عاد بالفعل، ولكن ذلك لم يحدث، إذ لم يتوفر حتى اللحظة السياق الموضوعي والسياسي والعسكري والأمني الذي يؤمّن عودة محتملة للرئيس الذي يتلقى حالياً العلاج في أحد المشافي الأمريكية، ومن المتوقع أن يعود إلى العاصمة السعودية حيث منفاه القسري المستمر منذ مارس/آذار 2015.
يجادل المجلس الانتقالي باستمرار بشأن عودة الحكومة، مبدياً عدم معارضته لعودتها، لكنه يحتفظ بسياقه الخاص الذي يضع فيه هذه الحكومة، باعتبارها من وجهة نظره "حكومة مناصفة"، في إشارة إلى أنها تلبي حاجة الجنوبيين إلى تقاسم السلطة مع الشمال، على الرغم من أن الدولة من رأسها إلى أخمص قدمها يتحكّم بها قادة جنوبيون، على رأسهم الرئيس عبد ربه منصور هادي الذي ينحدر من محافظة أبين الساحلية الواقعة بين محافظتي عدن وشبوة.
الحقيقة أن الحكومة بالفعل تشهد تقاسماً تامّاً للمناصب بين الشمال والجنوب، إلا أن المجلس الانتقالي لا يريد أن يستوعب أن لديه حصة من ضمن حصص تخصّ مكونات جنوبية أخرى، لذا يتصرف على أنه الوصي على الجنوب، ولديه بالفعل إمكانيات مادية وُضعت بين يديه من أسلحة ومقرات وأموال، وأخيراً مرافق وإمكانيات الدولة اليمنية بعد الانقلاب عليها في عدن.
وهذه المزايا لم تتحقّق لهذا الكيان الانتقالي "القروي" الطارئ والناشئ، نتيجة حضوره في قلب المشهد الجنوبي بقدر ما هو نتاج هندسة جيوسياسية أجراها التحالف العسكري الثنائي بشكل متضامن خلال السنوات الماضية، بهدف خلط الأوراق في الجنوب، ولضمان تأمين مسار يؤدي إلى نتيجة نهائية وحاسمة هي انفصال جنوب اليمن عن شماله، باعتباره خطوة ضمن خطوات تهدف إلى إعادة إنتاج الفسيفساء السياسية الجنوبية الهشة التي أنتجها زمن الحماية البريطانية ما قبل الاستقلال في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1967.
ومن هذا المنطلق يمضي المجلس الانتقالي في زرع الصعوبات في مسار عودة الحكومة ومنها إصراره على التدخل المباشر في شؤون الحكومة وإصدار التوجيهات إلى الوزراء خصوصاً الذين يمثّلون المجلس، وأولئك الذي يمثّلون تيارات سياسية قريبة أو متحالفة مع المجلس كالحزب الاشتراكي اليمني، وسلوك كهذا يعبّر عن نزعة الانتقالي التي تريد أن تبقى الحكومة الحالية ضمن دائرة مائعة من التبعية للمرجعيات السياسية التي تتقاسم النفوذ في جنوب اليمن، ومنها المجلس الانتقالي بصفته الجهة التي تتحكم بشكل كامل في العاصمة السياسية المؤقتة عدن، في الوقت الراهن على الأقلّ.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.