وفقاً للأرقام المُعلنه، فإن إجمالي عدد النازحين في المدارس والمشافي والخيام يصل إلى نحو مليون وربع أغلبهم في رفح ووسط القطاع. / صورة: Reuters (Reuters)
تابعنا

قبل بدء حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، ظنّ نحو 2 مليون ونيف يمثلون سكان القطاع أنهم سيكونون على موعد مع جولةٍ أشدّ قليلاً من سابقاتها، ولم يكن في بالهم أن يتحولوا هم بحياتهم ووجودهم إلى أهداف للاحتلال، فالجميع باتوا سواء أمام آلة الحرب الإسرائيلية التي اتخذتهم أهدافاً مشروعة.

ولا يمكن فهم ذلك المشهد الدامي اليومي، إلا في سياق الهدف غير المعلن إسرائيلياً، فقد تراجعت حكومة نتنياهو عن هدف تهجير سكان غزة إعلامياً بعد اعتراض الجانب المصري، وطرحت فكرة إنشاء منطقة عازلة حول قطاع غزة، أملاً في حفظ أمن تجمعاتها الاستيطانية، وتشجيع مستوطنيها على العودة إليها مجدداً.

غير أن ممارساتها العسكرية ضد الحياة المدنية تهدف إلى تهجير سكان غزة، ومن أجل سحق المقاومة، وتحرير الأسرى، وإجبار السكان على الهجرة أو تقليص مساحة غزة الجغرافية، كما أعلنت حكومة نتنياهو بعد ساعات قليلة على هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لم يلقِ الاحتلال بالاً للحياة المدنية أو المدنيين في غزة.

التهجير بالتدمير

أظهرت العمليات العسكرية وكثافة النيران المتصاعدة والموجهة دائماً نحو المدن والأحياء السكنية، شكل السياسة التي نفذها جيش الاحتلال، والساعية لإجبار المدنيين على ترك ممتلكاتهم، وهذا ما أكده تقرير الاستخبارات الأمريكية الصادر بتاريخ 14 ديسمبر/كانون الأول الجاري، والذي يؤكد أن نصف الذخائر الإسرائيلية المُستخدمة في غزة غير موجهة، تُعرف بـ"القنابل الغبية" التي تحدث انفجارات ضخمة تُلحق دماراً شاملاً بمربعات سكنية بأكملها.

فلا يهتم الاحتلال بسقوط مئات الضحايا من المدنيين في كل استهدافٍ جوي ومدفعي، ويحرص على إخلاء جميع مراكز الإيواء "المدارس والمشافي وغيرها" بقوة النيران، وأمام مئات بل آلاف المجازر بحق المدنيين، وحرص جيش الاحتلال على تدمير كل أشكال مقومات الحياة المدنية في قطاع غزة، سعت مئات الآلاف من العائلات إلى البحث عن طوق النجاة.

وتشير التقديرات إلى بقاء نحو 700 ألف من سكان شمال قطاع غزة، ونزوح نحو 600 ألف إلى المنطقة الوسطى وخان يونس، وجرى الانتقال إلى رفح بسبب الضغط السكاني وسط القطاع، وحسب الأرقام المُعلنه، فإن إجمالي عدد النازحين في المدارس والمشافي والخيام يصل إلى نحو مليون وربع أغلبهم في رفح ووسط القطاع.

وبعد وصول الاحتلال والمقاومة إلى التفاهم على تهدئة إنسانية مؤقتة في 24 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، امتدت لأسبوع واحد فقط، كان جنوب قطاع غزة هدفاً متوقعاً للاحتلال، وهو ما خلّف موجة نزوح سكاني جديدة لا تقل حدةً عن سابقاتها، لأن حرص الاحتلال على عدم وصول المساعدات الإنسانية إلى مدينة غزة والجزء الشمالي من القطاع، جاء في سياق استغلال دخول المساعدات وتركيزها في جنوب قطاع غزة لتعويض ما فشلت فيه آلته العسكرية شمال قطاع غزة، وهو ما أجبر الكتلة الكبرى من سكان هذه المنطقة على النزوح نحو الجنوب بحثاً عن المساعدات، وهو ما تحقق جزئياً.

حلم اليمين الإسرائيلي المتطرف

الكارثة الإنسانية التي حلت بغزة من دون أي تدخل أو ضغط حقيقي خارجي على الاحتلال، حفزت التيار اليميني الديني في إسرائيل إلى مزيدٍ من القتل والتدمير في القطاع، فإذا كانوا عاجزين أمام صمود المقاومة والشعب عن تنفيذ حلمهم القديم الذي سبق وأن عبّر عنه اللواء إيغور آيلاند، بتهجير سكان غزة إلى سيناء، فإن التهجير الذي عبرت عنه وثيقة إسرائيلية نُشرت خلال الأيام الأولى للعدوان على غزة، بهدف تهجير السكان بشكل جزئي أو مرحلي من أجل القضاء على المقاومة ثم إعادتهم إلى غزة من جديد يبقى حاضراً وبقوة.

حتى وإنْ كانت بعض الأطراف الإقليمية تعلن رفضها الإعلامي خشيةً من أن يكون ذلك التهجير على حسابها، فإن سلوك جيش الاحتلال ميدانياً يؤكد ذلك، ولا أحد في غزة وخارجها يستطع استبعاد الخطوة التالية للعدوان البري على خان يونس.

لذا فإن استبعاد مواجهة كتل النزوح في وسط قطاع غزة وجنوبه لنفس مصير شمال غزة وخان يونس لا يمت لواقع العدوان الجاري بأية صله، لأن إجبار مئات الآلاف من السكان على النزوح إلى المناطق المذكورة أعلاه سرعان ما ستظهر نتائجه المنشودة إسرائيلياً، فمدينة خان يونس الجاري تدميرها لا تستطع أن تشكل ملاذاً لمئات آلاف النازحين من وسط القطاع، وهذا ما يمكن أن يجعل الطريق مفتوحاً أمام وصول ما يقرب من مليون إنسان إلى جنوب قطاع غزة، حينها يمكن أن تتحول تلك المخططات الإسرائيلية إلى واقع إنساني لن تستطيع مصر تجاهله.

ما جرى خلال السنوات القليلة الماضية من ترتيبات ديموغرافية في شمال سيناء، مثل هدم الأنفاق مع غزة، وهدم مدينة رفح المصرية القريبة من الحدود الجنوبية مع غزة في إطار الحملة العسكرية للجيش المصري قبل سنوات قليلة، ثم إعادة بناء أحياء جديدة من دون تسليمها للسكان حتى الآن، يظل حاضراً في أذهان الشعب الفلسطيني، وهو ما حذرت منه الجبهة الداخلية للمقاومة في غزة خلال الأسابيع القليلة الماضية من خلال تعميماتها وبياناتها التوعوية للسكان محذرةً إياهم من النزوح نحو رفح والاستعداد لمواجهة أسوأ الظروف من أجل تبديد تلك الطموحات الصهيونية، خصوصاً أنه لا يخفى على العيان أن جيش الاحتلال يتعمد تدمير المباني التي جرى إخلاؤها مسبقاً لحرمان سكانها النازحين من العودة إليها.

تلك المخططات الإسرائيلية المُعلنة يعبر عنها زعيم حزب الصهيونية الدينية والوزير في حكومة نتنياهو، سموتيرتش قائلاً إن الهجرة الطوعية واستيعاب سكان غزة في دول العالم هو حل إنساني ينهي معاناة اليهود والعرب، وهو كغيره من الشخصيات السياسية المتطرفة يتصدرون وسائل الإعلام، مع تكرار تلك المطالب الرامية إلى تهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة، مع الاستمرار في تسليح المستوطنين داخل الضفة الغربية.

وذلك ما يحذر منه العديد من المسؤولين الأمميين، وفي مقدمتهم الأمين العام للأمم المتحدة الذي حذر في 10 ديسمبر/كانون الأول خلال زيارته إلى قطر، من استمرار مساعي الاحتلال الهادفة إلى تهجير الشعب الفلسطيني، وهو ما أكده أيضاً فيليب لازاريني المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا"، موضحاً أن إسرائيل ماضية في تمهيد الطريق لتهجير السكان بشكل جماعي إلى مصر.

المعادلة الديموغرافية وتطور الصراع

ومهما كانت أهداف الاحتلال ومساعيه الرامية إلى التهجير الكلي أو الجزئي للسكان، فإن من شأن خطوة كهذه أن تنعكس سلباً على تطور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فالاحتلال يواجه خلال السنوات القليلة الماضية أزمة ديموغرافية حقيقية تتلخص في تراجع معدلات الهجرة إلى الكيان.

وفي النصف الأول من عام 2023، تراجعت معدلات الهجرة اليهودية إلى إسرائيل بنسبة 20%، مقابل تنامي معدلات الهجرة العكسية من إسرائيل، إذ تشير بيانات دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية إلى أن عام 2022 شهد على مغادرة نحو 900 ألف من حَمَلة الجنسية الإسرائيلية بشكل غير دائم، مقابل نحو 750 ألفاً عام 2020.

وتسبب ذلك في تراجع أعداد الإسرائيليين في فلسطين التاريخية إلى 6.8 مليون نسمة، مقابل 7 ملايين فلسطيني، وفق بيانات مركز الإحصاء الفلسطيني في عام 2023.

وتوضح تلك البيانات الرسمية أن ثمة ارتفاعاً ملحوظاً على طلبات الجنسية من البرتغال، إذ وصلت نسبة الطلبات من هذا البلد بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول إلى 68%، كما وصلت الطلبات إلى فرنسا 13%، إضافة إلى طلب الإسرائيليين الكبير على شراء العقارات في الولايات المتحدة.

وعليه تسعى حكومة الاحتلال إلى حسم الصراع مع الفلسطينيين كما يقول متطرفو الحركة الكهانية في حكومة نتنياهو عبر توظيف الحرب الجارية على غزة أملاً في استعادة التفوق الديموغرافي، وهذا ما تؤكده رؤية حكومة نتنياهو الضبابية لما بعد حرب غزة، فلا يستطع أي من المراقبين تقديم تصور واضح لنوايا حكومة نتنياهو، فلا يقبل الأخير بتوحيد قطاع غزة والضفة الغربية عملاً باتفاق أوسلو 1993، ويتجاهل جميع المطالب الإقليمية والدولية التي تتحدث عن الدولة الفلسطينية.

"خطيئة شارون"

ولا يمكن تفسير تلك النوايا الصهيونية، إلا في سياق محاولة البحث عن ذلك النصر المفقود في غزة، وهذا ما يقود إلى التفكير الجدي في التهجير، فمن شأن هذا التوجه الجاري تنفيذه في القطاع أن يشكل طوق نجاة لحكومة نتنياهو أمام الجبهة الداخلية، لأن الحديث الصهيوني عن تقليص مساحة غزة لا يقتصر على البُعد الديموغرافي فحسب، بل يشمل تلك الأبعاد الأمنية التي تخطط لها دولة الاحتلال.

فمن أهم نتائج 7 أكتوبر/تشرين الأول أنها عرّت منظومة الأمن الصهيونية، ووجهت ضربة قاتلة إلى منظومة التمدد الاستيطاني المحصّنة بالأمن، لذلك واجهت الحكومة الإسرائيلية الرفض الإعلامي المصري لمخطط التهجير بخطوات عملية في غزة لا تقود إلا إلى التهجير، إلى جانب التخطيط لتقليص مساحة قطاع غزة، عبر إنشاء منطقة عازلة من شأنها أن تُعيد عشرات آلاف المستوطنين لمستوطنات غلاف غزة في محاولةٍ منها لاستعادة أمن الغلاف، وبالتالي ترميم منظومة التمدد الاستيطاني.

من ناحية أخرى، فإن التهجير الكلي أو الجزئي، أو تقليص مساحة غزة الجغرافية، والبحث عن إيجاد حلول لـ"خطيئة شارون" كما يُقال إسرائيلياً المتعلقة بفك الارتباط من جانب واحد عن القطاع في عام 2005، عبر إعادة احتلال القطاع من جديد، كلها تأتي في إطار المساعي الإسرائيلية للقضاء على أي شكل من أشكال المقاومة الفلسطينية.

ويمكّنها ذلك من الاستمرار في قتل الشعب الفلسطيني ببطء في الضفة الغربية وغزة، ويعيد إليها السيطرة الكاملة على القطاع، بخاصة أنها سوف تكون قادرة على وضع يدها على حقول الغاز القريبة من سواحل القطاع، إذ تؤكد دراسة لمجلس الدراسات الفلسطينية في عام 2015 أن القيمة السوقية لهذه الحقول تُقدر بنحو 8 مليارات دولار، فضلاً عن تلك الاكتشافات الجديدة.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً