يفرض الموقع الجغرافي لتركيا أهمية جيو-استراتيجية على الساحتين الإقليمية والدولية، لوجودها ضمن أهم مناطق الصراع العالمية، وارتباطها بحدود مشتركة مع ثماني دول، واحتواء أراضيها على اثنين من أهم المضايق البحرية في العالم، هما مضيق إسطنبول وجناق قلعة.
هذه الأهمية الاستراتيجية تتطلب قوة ردع عسكرية نوعية فاعلة وقادرة على مواجهة التحديات، والدفاع عن مصالح الدولة التركية في الوقت الراهن والمستقبل.
تعتبر القوات الجوية أحد الأفرع الرئيسة للقوات المسلحة واليد الطولى للدفاع عن أجواء الدولة ومناطقها الحيوية وإسناد القوات البرية، وتنفيذ المهام والعمليات التعبوية الدفاعية والهجومية ضدّ التهديدات الداخلية والخارجية، ما يعزز أهمية الحصول على طائرات نوعية قادرة على التصدي للتهديدات والتحديات ومواكبة التطور التقني والتكنولوجي القادر على المنافسة في مجال صناعة الطيران العالمية.
رحلة تحليق المقاتلة "قآن"
يعتبر عام 2010 نقطة تحول في تكنولوجيا الدفاع التركية، بعد أن قررت أنقرة تعزيز استقلاليتها في مجال الصناعات الدفاعية والطيران والتوجه نحو المنافسة الدولية.
وبدأ العمل على التصاميم النظرية للمقاتلة "قآن" عام 2011، واستمرت حتى سبتمبر/أيلول 2013، وأُطلق البرنامج بشكل رسمي عام 2018، فيما كان من المخطط أن تكون الرحلة التجريبية الأولى عام 2026، وأن تدخل المقاتلة الخدمة عام 2032.
في عام 2020، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على الصناعات الدفاعية التركية نتيجة شراء تركيا صواريخ "إس 400" من روسيا، وجرى إقصاؤها من برنامج الطائرة "إف-35" من الجيل الخامس التي كانت فيه طرفاً مُصنّعاً ومشترياً.
أدى إصرار القيادة التركية، وإشرافها على البرنامج واهتمامها به، وتسريع عمليات التطوير والبناء إلى تنفيذ اختبارات التشغيل الأرضي الأولى للطائرة بنجاح في شهر مارس/آذار 2023.
وشكَّل يوم 21 فبراير/شباط 2024 منعطفاً مُهمّاً وعلامة فارقة في تاريخ صناعة الطيران التركية بتنفيذ أول عملية إقلاع ناجحة للمقاتلة "قآن"، ومن المقرر أن يتلوها تصنيع 7 طائرات أخرى، بالإضافة إلى الطائرة الأولى المخصصة للاختبار والتجريب، فيما يجري التخطيط لتسليم أول 20 طائرة في عام 2028، لتنضم إلى أسطول القوات الجوية التركية، على أن يجري تصنيع طائرتين كل شهر لتحل محل طائرات "إف-16" الأمريكية، كما يجري العمل في المستقبل على تصميم وإنتاج محرك محلي للطائرة.
الاستقلالية والتفوق الجوي
تمتلك إسرائيل طائرة "إف-35" ضمن سلاحها الجوي، وجرت الموافقة من الولايات المتحدة الأمريكية على بيع اليونان الطائرة هذا العام، ورفض بيعها لتركيا مسبقاً. إن امتلاك تركيا طائرة مقاتلة من الجيل الخامس يعتبر تحدياً وعاملاً مهمّاً للوصول إلى توازن ردع في المنطقة.
عند المقارنة الأولية بين مشروع الطائرة المقاتلة من الجيل الخامس "قآن" وطائرة "إف-35" الأمريكية، نجد أن الأخيرة صُممت بتقنية طُوّرت قبل عقدين من الزمن تقريباً، إذ أقلعت الرحلة الأولى للطائرة في شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 2006، أما الطائرة التركية "قآن" فهي صُممت وتُبنى وتُطوَّر بتقنية الوقت الحالي.
ويعمل في المشروع 5000 مهندس بالاختصاصات كافة، منهم 500 مهندس لأغراض البرمجة، ويتكون نظام الطائرة المحوسب من نحو 20 مليون سطر، ويضم مئات البرمجيات التي تعمل معاً، لذلك يمكن اعتبار المقاتلة "حاسباً آليّاً طائراً".
ويعتبر امتلاك المقاتلة الوطنية "قآن" مُهمّاً للاستغناء عن قطع الغيار الأجنبية، وما يرتبط بها من قضايا الصيانة والإدامة للمحركات والأنظمة الفنية والكهربائية والتقنية والإلكترونية، خصوصاً عمليات البرمجة والتشفير للأسلحة ومنظومات الحرب الإلكترونية والاتصالات ومعدات الحماية الذاتية.
وتمثل صناعة الطائرة المقاتلة "قآن" بتقنية التخفي (Stealth Technology) أمراً مُهمّاً للمقدرة على التخفي عن الرادارات المعادية وصعوبة رصدها لتنفيذ المهام بكفاءة وأمان ونجاح، وتحقيق المباغتة والمفاجأة في العمليات.
تمكّن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والتقنية المستخدمة في المقاتلة الوطنية "قآن" من حرية العمل باستقلالية تامة مع وحدات الرادار والدفاع الجوي التركي، مع القدرة على العمل مع الطائرات المسيَّرة، والتواصل والتخابر مع غرف العمليات ومنظومات القيادة والسيطرة عبر شبكات مشفرة (Encrypted Network)، كما أن الإضافة النوعية بتركيب الرادار (AESA) في مقدمة الطائرة يمكنها من كشف الأهداف لمدى 150 كيلومتراً.
وتعتبر الأنظمة المتطورة المساعدة للطيار "TULGAR HELMET" ميزة للتمكن من تخفيف الأعباء على الطيارين في ملاحظة البيانات والصور بالأبعاد الثلاثية (3D) وتتبعها بسهولة واحترافية، ومن النقاط المهمة التي أولتها القيادة التركية أن تكون المقاتلة "قآن" قابلة للتطوير للجيل السادس مستقبلاً.
فتحت الصناعة الوطنية التركية آفاقاً جديدة في إنتاج الطائرات المقاتلة بامتلاك طائرة مقاتلة وطنية من الجيل الخامس، جرى تصنيعها باستقلالية تامة عن التبعية الأجنبية وما تتضمنه من الحصول على الموافقات الدبلوماسية والسياسية للحصول على المنظومات.
ويمثل هذا عاملاً مُهمّاً لرفد الاقتصاد الوطني وتوفير مبالغ طائلة كانت ستُصرف على شراء طائرات من دول تحتكر سوق السلاح عالميّاً، مع إمكانية الاستثمار بطرح الطائرة للبيع مستقبلاً.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.