التحقيق الموثَّق بالأدلة والشهادات عرض كيف تم إخفاء الجريمة وطمس معالمها من مستويات عليا في الجيش ووزارة الدفاع الأمريكية، والجهود الممنهجة لإنكار الجريمة وإخفاء معالمها و"تنظيف أو تعقيم آثارها"، وهو المصطلح الذي تم استخدامه حرفياً في الخلاصات والوثائق العسكرية ذات الصلة.
ولا يقلّ عن ذلك أهمية أنه قدّم لنا دليلاً إضافياً على حقيقة الوجه البشع والبغيض للحرب الأمريكية على الإرهاب، حيث تدمير المدن والحواضر العربية والإسلامية وتشريد أهلها، في مقابل النموذج التركي الناصع والناجع في مواجهة الإرهابيين. وفي هذا تأكيد عجز واشنطن عن تقديم حلول لمشكلات وأزمات المنطقة المهمة التي كانت تاريخياً منوطة بأهلها وأبنائها الأصليين.
للتذكير، فقد مثّلت الباغوز، وهي بلدة صغيرة بريف مدينة الزور، آخر معقل لتنظيم الدولة الإسلامية داعش في سوريا، وجرى تدمير البلدة عن بكرة أبيها، في جريمة حرب موصوفة، ترجمت سياسة الأرض المحروقة التي اتبعتها أمريكا وأدواتها المحلية في سوريا والعراق، فيما جاء تحقيق الصحيفة الأمريكية عن المجزرة المتعمدة بحق المدنيين العزل من النساء والأطفال ليؤكد ما كنّا نعرفه جميعاً عن جرائم الحرب التي ارتُكبت بحق مواطنين مدنيين مسلمين في سوريا والعراق وأفغانستان تحت لافتة مكافحة الإرهاب الفضفاضة والمضللة.
نيويورك تايمز عرضت تفاصيل صادمة عمَّا جرى في البلدة السورية الصغيرة، تضمنت تشخيص طائرات مسيَّرة أمريكية لقافلة مدنيين من النساء والأطفال على ضفة نهر الفرات بلغ عددهم 80 تقريباً، ورغم ذلك قرّرَت القيادة الميدانية لوحدة العمليات الخاصة المكلفة قيادة المعارك البرية في سوريا توجيه أوامر للطائرات الحربية من طراز إف-15 بإلقاء قنبلتين مع فارق زمني لدقائق بينهما، إذ بلغ وزن الأولى ربع طن تقريباً (225 كجم) والثانية طنّاً تقريباً (907 كجم)، مما أدى إلى مقتل -وللدقة "إبادة"- القافلة عن بكرة أبيها، بما فيها النساء والأطفال.
الصحيفة الأمريكية سردت بالتفصيل في تحقيقها أيضاً كيف قامت قيادة الجيش الأمريكي بإخفاء متعمد لمعالم المجزرة و"تنظيف أو تعقيم آثارها"، ثم جرى ترويج روايات محرفة وكاذبة لوسائل الإعلام هوّنت الحدث، بل وتحدثت عن مقتل 16 من أفراد تنظيم داعش و4 مدنيين، مع الإشارة إلى احتمال أن يكون بعض النساء والأطفال من مقاتلي التنظيم أيضاً.
وحسب ما جاء حرفياً في التحقيق، وصف المستشار القانوني دين واو كورسكي الغارة بأنها "جريمة حرب محتملة تتطلب إجراء تحقيق، لكن في كل خطوة تقريباً، قام الجيش بخطوات أخفت الضربة الكارثية"، إذ إنه تم تقليل عدد القتلى، وتم تأخير التقارير وتعقيمها وتصنيفها. وبعد ذلك قامت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة بتجريف موقع الانفجار. ولم يتم إخطار كبار القادة. "وبدأ المفتش العام المستقلّ بوزارة الدفاع جين تايت تحقيقاً، لكن التقرير الذي يحتوي على نتائجه تم تعطيله وتجريده من أي إشارة إلى الضربة".
تعبّر وتفضح مجزرة الباغوز حقيقة الحرب الأمريكية على الإرهاب، علماً أن النموذج نفسه تم اتباعه قبل ذلك في مدن عين العرب كوبانى والرقة بسوريا والموصل بالعراق، والذي يمكن وصفه بدقة بنهج الأرض المحروقة بحجة تحرير المدن من قبضة تنظيم داعش.
وللعلم فقد تم تدمير الباغوز عن بكرة أبيها، وهذا ليس مفاجئاً قياساً إلى استخدام القوة الجوية وحتى المدفعية في معارك برية بمدن مأهولة، وفي حيّز جغرافي محدود، وعندئذ تكون النتيجة معروفة ومحسومة سلفاً.
بعد الحصار والتهجير والتدمير تضمن النموذج استخدام قوة برية لتنظيف أو القيام ببقية المهام القذرة وحتى إخفاء معالم الجرائم التي تم ويتم ارتكابها في سوريا، وذلك عبر الفرع السوري لتنظيم PKK الإرهابي الذي يعد بمثابة الذراع البرية الميدانية للحرب الأمريكية، علماً أن تقرير المفتش بوزارة الدفاع ادّعى تمرير التنظيم لمعلومة وتجود مسلحي مقاتلي داعش وسط المدنيين العزل من النساء والأطفال.
نفس النموذج البشع والإجرامي رأيناه قبل ذلك في مدينة عين العرب كوباني التي تم تهجير أهلها وتدميرها عن بكرة أبيها، وهو نفس ما حدث أيضاً بالرقة في سوريا والموصل الحدباء بالعراق.
وفي هذا الصدد لا بد من الإشارة إلى أن منظمات حقوق الإنسان الأممية والمهنية والموثوقة -هيومان رايتس ووتش والعفو الدولية أمنستي والشبكة السورية لحقوق الإنسان- تحدثت طوال الوقت عن ارتكاب التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة جرائم حرب موثقة في سوريا والعراق مع اعتبار المعارك بحد ذاتها جريمة حرب محتملة كونها استهدفت البشر والحجر وتدمير المدن وتهجير أهلها وقتل الآلاف منهم.
يبدو لافتاً أيضاً في النموذج الأمريكي أن الضجة السياسية والإعلامية حول المعارك ضد معاقل تنظيم داعش تنتهي بمجرد السيطرة عليها. وهنا تمكن الإشارة إلى أن الباغوز لا تزال مدمرة وأهلها مهجرين ومشرّدين في مخيمات اللاجئين، كما عين العرب والرقة والموصل، ولم نرَ جهوداً جدية لإعادة الإعمار ولا استنفاراً دولياً سياسياً وإعلامياً لفعل ذلك، كما فعلت أمريكا عند تدميرها بحجة محاربة الإرهاب.
هذا حدث في أفغانستان كذلك، حيث قتل الجيش الأمريكي ربع مليون مواطن خلال عشرين عاماً، وفي الفترة الأخيرة وحتى بعد الانسحاب من هناك، حدثت مجزرة مروّعة في مدينة كابل 28 أغسطس/آب أوقعت مدنيين عُزْلاً بحجة اغتيال أحد قادة الفرع المحلي لداعش، وكالعادة تم إخفاء معالمها والتلاعب في الروايات بصددها.
وهنا وللمقاربة، يمكن المقارنة مع النموذج التركي لمحاربة الإرهاب، حيث تم تنفيذ ثلاث عمليات عسكرية في سوريا، وعمليات عدة أخرى مستمرة لملاحقة الإرهابيين في العراق أيضاً ولم نشهد خلالها لا تدميراً للحجر ولا قتلاً وتهجيراً للبشر، مع اتباع سياسة الصبر وطول النفس في العمليات العسكرية ولو استغرقت مدى زمنياً أطول، علماً أنها تجري أساساً بمشاركة أهل وأبناء المنطقة الأصليين والمدن لا تزال على حالها إثر القيام بجهود إعادة إعمار جدية وحقيقية لها، لذلك تبدو الباب والراعي وعفرين وتل أبيض مزدهرة ولا يعكرها سوى العمليات الإرهابية للأدوات الأمريكية.
تركيا تتصرف بصفتها من نسيج المنطقة وأهلها الأصليين، ومصالحها متطابقة مع مصالح شعوبها وأهلها، وتساعد حلفاءها ممن يحاربون الإرهاب فعلاً بلا تمييز أو نفاق من أهل المدن والحواضر والبلدات المستهدفة. أما أمريكا فتتصرف بذهنية الغزاة واعتمدت على الغرباء في سوريا والعراق، لذلك لا يمانع هؤلاء تدمير الحجر وتهجير البشر، ولم يكترثوا لإعادة الإعمار كونهم بحثوا فقط عن تحقيق مكاسب سياسية وفئوية ضيّقة، ودائماً تحت العباءة قواعد اللعب -وللدقة "الإجرام"- الأمريكية.
لذلك رفضت الولايات المتحدة أيضاً الانضمام إلى اتفاقية روما، المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية، وعملت ولا تزال على إضعاف المحكمة ومنعها من القيام بالتحقيق في جرائمها أو جرائم حلفائها بالمنطقة والعالم.
وبناء عليه، لا يبدو غريباً استمرار الأزمات في المنطقة بسبب التدخل الأمريكي لسنوات بل لعقود، إذ دعمت واشنطن منظومات وسلطات هشّة فاسدة و استبدادية تعمل تحت الحماية الأمريكية ولا تصمد من دونها.
في الأخير وباختصار، وبما يمثل ربما أحد أهم الاستنتاجات من تحقيق صحيفة نيويورك تايمز، حيث تأكدنا مرة جديدة من حقيقة أمريكا كقوة استعمارية غازية لا تملك الحلول لأزمات ومشكلات المنطقة المهمة التي كانت تاريخياً منوطة حصراً بأهلها وأبنائها الأصليين.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.