لقد عُرف عن مارك قولته المشهورة "تحرّك سريعاً وحطّم الأشياء"، ولكن مع حدوث تغييرات جذرية في الأوضاع الاقتصادية حول العالم، وتحديداً منذ جائحة كورونا وما تسببت به من إغلاق وإرباك لسلاسل التوريد، يبدو أن العكس هو ما يحدث. فقد تسارعت الأحداث بشكل يسبق "فيسبوك" وربّما تحطّمها. مع أن ذلك يبقى احتمالاً بعيداً بعض الشيء إلا أنه احتمال وارد.
لقد أفصحت شركة "ميتا"، المعروفة سابقاً بفيسبوك، عن انخفاض في عدد المستخدمين النشطين على منصة فيسبوك، هذا فضلاً عن التباطؤ الواقع في إيرادات الشركة في الربع الثاني من عام 2022. وهما أبرز المؤشرات أن شركة "مارك" دخلت مرحلة حرجة، فلم يعُد الرجل ضمن العشرة الأغنى عالمياً، ولم تعد شركته أيضاً ضمن الشركات العشر الأغنى في العالم. فالأرقام تشير إلى أنّ شركة "ميتا" باتت تحتلّ المرتبة الحادية عشرة من حيث القيمة بين الشركات في العالم. حيث تبلغ قيمتها السوقية 565.4 مليار دولار، وفقاً لتصنيف بلومبرج. وقد كانت في السابق في المركز السادس، بناءً على سعر سهم Meta القياسي في 7 سبتمبر/أيلول 2021.
ورغم أنّ الشركة قد أُبلغت عن زيادة طفيفة في عدد المستخدمين النشطين يومياً في الرّبع الأخير من العام الماضي، إلا أنها زيادة خجولة سُجّلت فقط في السوق الآسيوية خصوصاً في الهند وإندونيسيا. فحسب موقع Statista، فإن متوسط عدد المستخدمين النشطين شهرياً على مستوى العالم في فيسبوك خلال الربع الثاني من هذا العام وصل 2.93 مليار مستخدم. وعلى الرغم من أن هذا الرقم قد ارتفع بنسبة 1.3 في المئة مقارنة بالربع الثاني من العام الماضي، فهذا لا ينفي أنه سجّل انخفاضاً بـ2 مليون مستخدم مقارنة بالربع الذي سبقه. كانت الخسارة الكبيرة في عدد المستخدمين في مناطق كأوروبا على سبيل المثال وكوريا الجنوبية. وهو ما يعني أن فيسبوك تخسر عدداً كبيراً من مستخدميها النشطين في الأسواق الليبرالية.
بطبيعة الحال الخسارة لا تتم وفق السلّم الجغرافي وحسب، فالسلّم الديمغرافي حاضر في المعادلة بشكل كثيف أيضاً. تشير الأرقام إلى أن هناك ما يشبه الهجرة الجماعية لجيل الألفية MZ وهم أولئك الذين ولدوا بين أوائل الثمانينيات من القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، تاركين وراءهم فيسبوك لمنصات أحدث سناً مثل تيك توك. لقد استخدم 27 في المئة فقط من جيل الألفية، أو أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و38 عاماً، فيسبوك العام الماضي، وهو ما يُعتبر انخفاضاً حاداً من 48.6 في المئة في عام 2017. وتشير التقديرات إلى أن أغلب مستخدمي فيسبوك هم في الأربعينيات والخمسينيات من أعمارهم. وحتى المراهقين، حسب هذه التقارير، الذين سبق لهم أن استخدموا تطبيق فيسبوك ماسنجر يبحثون عن بدائل أخرى مثل تيك توك.
يبدو أن الأوضاع الحالية التي تعصف بالعالم لها علاقة كبيرة في هذه التحولات التي تحدث في قطاع منصات التواصل الاجتماعي وخصوصاً شركة فيسبوك. هذه الأوضاع تشمل الركود الذي بات يصيب العديد من القطاعات الاقتصادية، والارتفاع الكبير في نِسب التضخّم عالمياً، وهو الأمر الذي أثّر بشكل كبير في القدرة الشرائية لدى شرائح واسعة من السكان. فمع ارتفاع الأسعار قلّت عمليات التسوّق، وهو ما ينعكس سلباً على سوق الدعاية والإعلان الذي يُعدّ المصدر الرئيسي للدخل لشركة فيسبوك.
هناك أيضاً الحرب الدائرة في أوكرانيا، فمع القيود التي فرضتها السلطات الروسية على منصات التواصل الاجتماعي كردِّ فعل عقابي جراء القيود التي فرضتها هذه الشركات على المحتوى الروسي، فقد خسرت "فيسبوك" ما يقرب من 70 مليون شخص في روسيا وحدها. هنا نجد مرّة أخرى كيف أصبحت منصّات التواصل الاجتماعي لاعباً سياسياً، وبذلك تدفع ضريبة عدم حيادها في المعركة. وهو حياد لم يعُد متصوّراً في ظلّ حالة الاشتباك العميقة التي تفرضها تقنيات هذه الشبكات على حياتنا اليومية. فلم تعد هذه الشبكات مجرّد أدوات للتواصل بل أسلحة في معارك الإقناع والتلاعب والتضليل للتأثير على الروح المعنوية للخصم.
لا شك أن تراجع عدد المستخدمين النشطين ينعكس على إيرادات الشركة المالية. حصدت الشركة ما يقرب من 27.8 مليار دولار في الربع الثاني من العام الحالي. وتُعدّ تلك زيادة طفيفة عن ما حققته الشركة في الربع الثاني من العام الفائت حيث بلغت فقط الزيادة 7 بالمئة. وهي المرة الأولى التي تُحقق فيها الشركة زيادة من خانة عشرية واحدة منذ العام 2012.
بجانب التغيّرات التي تحدث على نطاق السياسة العالمية، هناك تغييرات تحدث أيضاً داخل النظام الأركيولوجي المعلوماتي وتفرض تحديات كبيرة على شركة فيسبوك. فإيرادات شركة فيسبوك تتعرض لضغط عبر القوانين التي باتت تلجأ إليها بعض الجهات الحكومية في تعاملها مع الإعلانات الممولة على منصات التواصل الاجتماعي للتوصل لحوكمة آمنة للبيانات على الإنترنت. على سبيل المثال، صوتت الغالبية العظمى من المشرّعين في البرلمان الأوروبي على حظر المنصات عبر الإنترنت، مثل فيسبوك وGoogle، عرض الإعلانات التجارية للمستخدمين استناداً إلى معلوماتهم الأكثر خصوصية، في مسودة قانون تُعنى بالإشراف على المحتوى في الاتحاد الأوروبي، والمعروف باسم "قانون الخدمات الرقمية" (DSA).
تأتي هذه الخطوة وسط دعوات متواصلة وعلى مدار سنوات من نشطاء حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني لتعزيز الخصوصية على الإنترنت وضرورة اتخاذ إجراءات صارمة ضد ما يوصف بأنه مراقبة مسيئة تستغل نقاط ضعف المستخدمين، والتي أدّت إلى تلاعب واسع النطاق مثل فضيحة Cambridge Analytica في الانتخابات الأمريكية، هذا فضلاً عن الإعلانات الموجهة التي تستغل البيانات الشخصية في عمليات الإثراء الفاحش التي باتت تتمتع بها هذه الشركات والجهات المرتبطة بها. بالمحصلة يهدف قانون DSA، والذي اقترحته المفوضية الأوروبية في ديسمبر/كانون الأول 2020، إلى إنشاء قواعد ناظمة على مستوى أوروبا للخدمات عبر الإنترنت بحيث يُجابّه المحتوى غير القانوني، ويُنظّم الإعلان عبر الإنترنت وتُفرض تدابير الشفافية على خوارزميات المنصات.
في ذات السياق، تعرّضت شركة فيسبوك لضربة موجعة عندما أعادت شركة آبل ضبط إعدادات الخصوصية في أجهزتها المحمولة. ففي يونيو/حزيران 2020 قررت الشركة (Apple) إجراء تعديلات في تحديث برنامج iOS 14 لمنح مستخدمي iPhone القدرة على إلغاء الاشتراك في التطبيقات التي تتبع استخدامهم للإنترنت. تنبع سياسة مكافحة التتبع هذه من قييم Apple الأساسية للخصوصية باعتبارها "حقاً أساسياً من حقوق الإنسان". تشير التقديرات إلى أنّ شركة "ميتا" قد خسرت ما يقرب من 10 مليارات دولار هذا العام فقط جراء هذه التحديثات على الخصوصية في أنظمة iOS.
قد يراهن مارك على سوق ميتافيرس الواعدة في مجال الإعلانات، ولكنها سوق تبقى خاضعة للمراهنات نظراً للعديد من الشكوك التي تُثار عليها، هذا فضلاً عن تباطؤ بيع الأجهزة الخاصة المتعلقة بولوج عالم ميتافيرس ثلاثي الأبعاد مثل نظارات Meta Quest Pro. من المبكّر القول إن شركة "ميتا" أصبح خارج المنافسة، فما زالت تمتلك عدداً هائلاً من المستخدمين وحجماً هائلاً من الموارد المالية والتكنولوجية، الأمر الذي قد يضعها على مسار المنافسة من جديد إذا أحسن استثمار اللحظة.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.