يبالغُ النَّاس في إحسانِ الظَّن ببعضِ المشتغلين بالعلومِ والآداب، لكنهم يثقلونهم بتوقعاتٍ كبيرة، تنقلبُ إلى استنكارٍ وتشنيع عند أول موقفٍ يكسر تلك التوقعات، ليتحول لا شعوريًاً إلى تقمُّص حالة من التَّعالم موغلة في الثقة، لا تأبه إلا للمكانةِ المتوهمة وتضاعيفها التي لا ينبغي أن تُخدَش!
قال لي: تَخيَّل أنَّ "فلاناً" في برنامجٍ ثقافيٍّ شهير، قال: أعرف المسيري، لكن لم أقرأ بعدُ كتابه "العلمانيَّة الشَّاملة"، كان يحدثني وهو مستغرَقٌ في التعجب، إذ كيف لإنسانٍ بحجم فلانٍ من النَّاس، أن لا يكون قد قرأ للمسيري؟!
أمَّا أنا فأخذتُ الأمر من زاويةٍ مختلفة؛ سألته: هل قال هذا على الشاشة؟!
قال لي: نعم.
قلت له: هكذا ينبغي أن يكونَ الباحث، وهذه هي المعرفة الحقيقية، وهذا هو التواضع المفضي إلى ما تستكرهه النَّفس، ويُظَنُّ فيه النَّقص!
قال لي: ماذا تعني؟
قلتُ له: هذا الرجل الذي تتحدث عنه، مثقَّفٌ ضليع، لديه العديد من الكتبِ والأبحاث المنشورة، وكثير من المتابعين، والمعجبين، كان بوسعه حِفاظاً على هذه السِّيرة العطرة، أن يحاولَ بذكاء الفكاك من الاعتراف بعدم قراءته لكتب المسيري، لا سيما والمسيري باتَ اليوم من الشُّهرة بمكان، وقرأ له شداة المعرفة، ناهيك بشخصٍ بحجمِ فلان. وما اعترافه إلا تجرُّدٌ كبير، ونكرانٌ للنَّفس، ما ازدادَ به إلَّا رفعةً في نظري!
أن تقولَ: "لا أعلم"، "لم أقرأ"، "لم أقف عليه"، هذه جملٌ تدخلُ في رصيدكَ المعرفي والخُلُقِيّ، ولا تنقصُ من قدرك، لأنَّ النقصان الحقيقي أن تدَّعي شيئاً لا تملكه، أن تتظاهر بالمعرفة وأنتَ خِلوٌ منها، النُّقصان الحقيقي أن تخجلَ من القولِ للشيء الذي لا تعرفه: "لا أعرفه"، فتُدخِل رأسك الفارغ في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة؛ بحجة الحفاظ على الصورةِ النَّمطية التي تكوَّنت عنك لدى الآخر، وهي إحدى حِيل النَّفس الرَّكيكة لإشباع الغرور وسَدِّ النَّقص!
وما زلتُ أتخيلُ أن أرى كل صاحبِ فنٍّ يتحدثُ في الحقلِ الذي يُتقنه، ويمسكُ عن الحديثِ الذي لا يرى من نفسه إتقاناً وأهلاً له. ليسَ من الواجبِ عليكَ أن تتحدثَ عن كلِّ شيء، وأن تكتبَ في كلِّ شيء، تُخطئ عندما تظنُّ بوثوقية غريبة، أنَّ الحديث في كلِّ شيء يُظهِركَ بصورةِ العارف، العميق، الموسوعي الذي ينبغي أن ينصاعَ له الجميع!
كل ما نريده منك أن تكتبَ في ما تحسِن، وأن تتحدثَ في ما تفقه، أو أن تصمتَ صمتاً جميلاً، حفاظاً على ما تَبقَّى من قيمة للمعرفة، وصدقة تقدمها لنا بصمتكَ الوقور، لأنَّ الصَّمتَ في هذا الموطِن، أعظم لغةٍ اهتدى إليها الإنسان، لأنها تقي صاحبها مغبة سيولة الحديث، وتجنِّبه الوهم المفضي إلى التَّعالم.
يقول الماوردي في أدبه: "فإذا لم يكن إلى الإحاطة بالعلم سبيل، فلا عار أن يجهل بعضه، وإذا لم يكن في جهل بعضه عار، لم يقبح به أن يقول لا أعلم فيما ليس يعلم". أهـ. وأخبار العلماء في هذا الباب مستفيضة مشتهرة، لا حاجة إلى سردها، ويكفي من أقوالهم المرصعة بنورِ العلم، وبهاء الحقيقة قولهم: "جُنَّة العالم قوله: لا أدري. فإذا أضاعها أُصِيبَت مقاتله". وإذا رأيتَ من يقول: "لا أعلم"، أو "سأراجع المسألة وأردُّ عليك"، أو "اسأل غيري"، فالزمه، فإنَّه رجلٌ متجرِّد، وهذه أصبحت عملة نادرة في هذا الزَّمان الذي فشا فيه التَّعالم.
قبل أيامٍ وضعتُ على حائطي صورةً لشيخِ البلاغيِّين، العلَّامة محمَّد أبو موسى، دَخَلَ أحد الفضلاء، من أهلِ العلم، قال لي: من يكونُ هذا الشَّيخ؟!
تحدَّثتُ قليلاً عن العلَّامةِ أبو موسى، فشعرَ بالنَّدم لأنه لا يعرفه، وقال: يا لجهلي! وكلاماً قريباً من هذا المعنى، مفاده التفريط في معرفةِ رجلٍ بحجمِ شيخ البلاغيين!
لكم أن تتخيلوا كم ارتفعَ هذا الرَّجل في عيني، كان بإمكانه أن يتحللَ من الجهلِ به، أو يتحذلق بأنَّ الصورة هنا غير واضحة، وإلا فهو يعرفُ شيخ البلاغيين، بل وقرأ له، وكنتُ سأُصَدِّقُه حتماً، لأنَّ الرجل من أهلِ العلم والمعرفة، لكنَّه الوقوف أمام الحقيقة، والتنصل من التكلف المفضي إلى الجهل، والرسوخ النفسي الذي يجعله لا يخجل أن يُقِرَّ بهذا أمامي، وأنا في حكمِ أحد أصغر تلامذته!
قبلَ سنواتٍ طويلة شرعتُ في قراءةِ كتاب "الإمتاع والمؤانسة" لأبي حيان التَّوحيدي، كنتُ أشعرُ أني أسيرُ ببطء وحذر في مرتفعاتٍ ملتوية، وطرقٍ متشعبة، كانَ الكتابُ -يومها- ثقيلاً، وألفاظه غريبة، ولهذا وقفتُ عند رأسِ الصفحةِ الخمسين وأغلقته، ثمَّ ابتسمتُ ابتسامةً بلهاء، وقلتُ لـ نفسي: كتابٌ ثقيل، وكاتبٌ متكلِّف، وألفاظٌ غريبة تفتقرُ إلى السلاسة والسهولة… فأعدته إلى رفِّ المكتبةِ بضميرٍ مستريح.
والحقّ أني حينها كنتُ عاجزاً عن قراءةِ الكتاب؛ كنتُ لا أرقى إلى الوصولِ إلى قيمته الحقيقية، وسُمُوِّه الأدبي، وكل ما قلته لنفسي يومها كانَ هرباً وتعالياً بسببِ الجهل والعجز، فلا الكتابُ كان ثقيلاً، ولا الكاتبُ متكلفاً، وهو من أعظمِ كتَّابِ العربية، وإنما القارئُ المتلقي -الذي هو أنا- لم يصل إلى مستوى الكتاب حينها، فرماه بالثَّقالةِ والتكلُّف والغرابة، ومضى يبحثُ عن وجباتٍ خفيفة لا تُسمِنُ ولا تغني من جوعٍ معرفيٍّ وأدبي، بقدر ما تمنحكَ صكَّ الرِّضا عن نفسك.
ولهذا، عَوِّدْ نفسكَ، بينَ حينٍ وآخر، أن تقرأ كتباً صعبة، عسيرة، أكبر من قدرتكَ قليلاً، لتدرك أنَّ العلم ليسَ شيئاً ميسوراً، ولا مرذولاً، وأنَّه بابٌ شريف، تفنى فيه الأعمار. ولتنكسر حِدّة الغرور التي بدأت تظهر لديك، ولتُوقِنَ أنَّه طريقٌ طويلٌ بحاجةٍ إلى مجاهدةٍ ومصابرةٍ للوصولِ إلى فهمه، واكتساب الملَكَة فيه، واعلم أنَّ كتاباً ثقيلاً في ميزانكَ المعرفي، أعظم أثراً من عشراتِ الكتب التي تجد فيها الأنس والسّلوى، وكتبُ الأنسِ والسَّلوى لا ينبغي غمطها، ولا تركها، لأنَّها وقود السّيرِ في رحالِ العلم!
فالفكرة واضحة، وهي معادلة يسيرة: البحثُ عن المعرفة = معرفة، والاعترافُ بالجهل = معرفة، ومن كانَ باحثاً عن العلم، معترفاً بقصوره وجهله، فهو العارفُ بحق، وهو المعنيّ بقولهم: "من سارَ على الدَّربِ وصل". وهو واصلٌ لا محالة!
ومن أوهمَ نفسه بالمعرفة، فقد غَرِقَ في وحلِ الجهالة، إذ ليسَ خطأٌ أكبرَ من عدمِ الاعترافِ بالجهل. ومتى ما اعترف المرء بجهله، أجهدَ نفسه للارتفاع بها، وإنقاذها من تبعاتِ الوهمِ الكبير!
ولا خلاصَ له إلَّا بالتوبة، إذا اعتبرنا أنَّ الاعتراف بخطأِ ادعاء معرفة ما يجهل، أوَّل خطوةٍ على طريقِ التوبة. والتوبة هنا: اعترافٌ بذنبِ التَّعالم، والإقلاعُ عن الإيهامِ المعرفي، والنَّدم على ما فاتَ من ضياع العمر في الظهور برداءِ الغير، والإقرار على النفس أن لا تعود إلى شيءٍ ممَّا مضى!
حينها فقط، بإمكانه أن ينتشلَ نفسه من الوحل الذي سربله دونَ أن يشعر، وإذا شعرَ بعد فواتِ الأوان، فلن ينفعه شيء حتَّى التوبة، لأنَّ النفس لها إقبالٌ على العلمِ وإدبار، وحذارِ أن تشعرَ بغرقكَ في الوحل، في مرحلةِ الإدبار، فتقع فريسة للجهل المستديم، ورغبة في البقاءِ موحلاً، لأنَّكَ لا اشتهاءَ لديك للطَّلب، فقد أفقتَ في لحظةِ إدبارٍ عن التلقي، فخُتِمَ لكَ بالجهالة!
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.