مرة أخرى تعود قضية الصحفي السعودي جمال خاشقجي للواجهة، لكن هذه المرة عبر بوابة القضاء السعودي الذي قرر إغلاق الملف وإصدار أحكامه النهائية على المتهمين "المجهولين".
وبعد حكم أولي في ديسمبر/كانون الأول الماضي بإعدام 5 أشخاص (لم تتم تسميتهم) من بين 11 متهماً، ومعاقبة 3 مدانين منهم بأحكام سجن متفاوتة تبلغ في مجملها 24 عاماً، وتبرئة 3 آخرين (لم تتم تسميتهم) لعدم ثبوت إدانتهم، جاءت الأحكام الجديدة مغايرة للسابقة.
إذ تراجعت النيابة العامة بشكل نهائي عن أحكام الإعدام التي صدرت بحق مدانين وبرأت آخرين، واللافت أن ذلك تم دون ذكر أسمائهم رغم إغلاق هذا الملف، الذي يبدو أنه سيظل مفتوحاً في عدة محاكم أخرى بسبب التشكيك من المجتمع الدولي في هذه الأحكام.
أحكام جديدة
وفق ما نقلته وكالة الأنباء السعودية الرسمية (واس)، "أصدرت المحكمة الجزائية بالرياض أحكاماً بحق 8 أشخاص مدانين، واكتسبت الصفة القطعية"، وهو ما يعني أنها نهائية وواجبة النفاذ.
وأضافت الوكالة: أن "هذه الأحكام وفقاً لمنطوقها بعد إنهاء الحق الخاص بالتنازل الشرعي لذوي القتيل تقضي بالسجن"، كما أوضحت أن المحكمة قضت بـ"صدور حكم بالسجن 20 عاماً على 5 مدانين، وأحكام متفاوتة بين 7 و10 سنوات على 3 مدانين آخرين لم تسمهم جميعاً".
وقالت: إنها "بصدور هذه الأحكام النهائية تنقضي معها الدعوى الجزائية بشقيها العام والخاص"، في إشارة إلى غلق مسار القضية داخل البلاد.
ولم توضح "واس" تفاصيل الأحكام، ومدى خضوعها لطعن النيابة، وتفاصيل درجات التقاضي للوصول إلى المرحلة النهائية للحكم، إذ إن القضاء السعودي يصدر حكماً أولياً يمكن إخضاعه للاستئناف ثم أخيراً لنظر المحكمة العليا في بعض القضايا.
وبمقارنة هذه الأحكام الأولية المعلنة قبل عام بالأخرى النهائية اليوم، يتضح أن المحكمة تراجعت عن أحكام الإعدام.
وبذلك تكون المحكمة أقرت أيضاً في حكمها النهائي تبرئة أحمد عسيري (نائب رئيس الاستخبارات السابق) وسعود القحطاني (المستشار السابق لولي العهد محمد بن سلمان)، والقنصل السعودي السابق بسفارة الرياض في إسطنبول محمد العتيبي، رغم أنهم أبرز المسؤولين الكبار المتهمين في القضية التي يتم تداولها حالياً بالقضاء التركي.
وفي مايو/أيار الماضي أعلن أبناء جمال خاشقجي العفو عن قتلة والدهم "لوجه الله"، وسط بيانات وتغريدات تشير إلى تعرض الأسرة لضغوط لكونهم مقيمين بالمملكة، وسط نفي متكرر من الأسرة.
استهزاء بالعدالة؟
في أول ردود الفعل، اعتبرت المقررة الخاصة للأمم المتحدة، المعنية بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء، أغنيس كالامار أن الأحكام الصادرة عن المحكمة الجزائية السعودية في قضية الصحفي جمال خاشقجي "لا تتصف بأي مشروعية قانونية و أخلاقية".
وأعربت كالامار عبر حسابها على أحد مواقع ا لتواصل الاجتماعي الاثنين، عن انتقادها قرارات السجن الصادرة في قضية خاشقجي، الذي قتل بقنصلية بلاده في إسطنبول قبل نحو عامين.
وأضافت: "لقد أكملوا عملية (محاكمة) ليست عادلة أو منصفة أو شفافة"، واصفة موقف النيابة العامة السعودية بأنه "محاكاة هزلية للعدالة".
ولفتت إلى أن المسؤولين السعوديين الذين خططوا للجريمة وتبنوها بقوا أحراراً دون أي تأثر بالتحقيقات أو المحاكمات رغم الحكم بالسجن 20 عاماً على 5 من منفذي الجريمة.
وأردفت المسؤولة الأممية "فيما يتعلق بالمسؤولية الفردية لولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي هو على رأس الدولة، فإنه يتمتع بحماية جيدة ضد أي تحقيقات فعلية في بلاده"، داعية إلى عدم السماح بتبرئة المتورطين في جريمة قتل خاشقجي عبر تلك الأحكام.
وأكدت أنه لا ينبغي لتلك القرارات المتخذة اليوم أن تخفف الضغط على الحكومات من أجل ضمان الكشف عن المجرمين الحقيقيين، وخاصة الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، "التي تراقب بصمت المحاكمات في الرياض".
ودعت كالامار استخبارات الولايات المتحدة الأمريكية إلى الكشف عن المعلومات التي تمتلكها حول دور بن سلمان في الجريمة، مشيرة إلى أهمية توضيح الحقائق في مناخ لا تتحقق فيه العدالة بالسعودية.
كما أشادت بعدم صدور أحكام إعدام في القضية، مؤكدة أن الإعدام يعني إسكات صوت الشهود الرئيسيين في الجرائم والإعدامات التعسفية.
من جانبها، قالت خديجة جنكيز، خطيبة خاشقجي، إن أحكام السعودية بحق 8 مدانين "أفلتت المسؤولين الفعليين عن الجريمة"، واصفة إياها بأنها "استهزاء بالعدالة".
وقالت جنكيز في تغريدة: إنه "يعلم الجميع أن المسؤولين فعلاً عن مقتل جمال خاشقجي ليسوا الثمانية الذين تمت إدانتهم وسجنهم، ولكن أولئك الذين خططوا وقرروا وأصدروا الأوامر باغتياله بهذه الطريقة البشعة".
وأضافت جنكيز في بيان لاحق نشر بحسابها بتويتر، أن الحكم الصادر اليوم في السعودية "يمثل مجدداً استهزاء بالعدالة"، قائلةً إن المملكة لم تجب عمَّن خطط، ومن أمر، وأين الجثة حتى الآن؟
وأكدت أن المجتمع الدولي لن يقبل بهذه "المهزلة"، مشددة على أنها "أكثر إصراراً من أي وقت مضى على القتال من أجل تحقيق العدالة لخاشقجي".
تركيا.. تشبث بالحقيقة
لم تقف ردود الفعل فقط عند هذا الحد، إذ قال رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية فخر الدين ألطون: إن "الحكم النهائي الذي أصدرته محكمة سعودية اليوم، بشأن جريمة مقتل الصحفي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في مدينة إسطنبول التركية، لا يُلبِّي توقعات تركيا والمجتمع الدولي".
وأكّد ألطون في سلسلة تغريدات نشرها على تويتر، أنه "التزام قانوني وأخلاقي (بالنسبة إلى تركيا) أن نسلِّط الضوء على جريمة مقتل خاشقجي التي ارتُكِبت داخل الحدود التركية من أجل تحقيق العدالة، فهذه هي الطريقة الوحيدة لنضمن عدم ارتكاب فظائع كهذه مستقبلاً".
وأضاف: "لا نزال لا نعلم ما حدث بجثة خاشقجي أو من أراد قتله أو إن شارك في الجريمة متعاونون محليون، وكلها أمور تثير الشكوك حول مصداقية الإجراءات القانونية التي اتخذتها السعودية. إننا نحث السلطات السعودية على التعاون مع التحقيق الجاري في الجريمة بتركيا".
وفي يوليو/تموز الماضي قررت محكمة العقوبات المشددة الـ11 في القصر العدلي بمنطقة "تشاغليان" في إسطنبول، عقد الجلسة الثانية لمحاكمة قتلة خاشقجي في 24 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
وقالت إنها وافقت على لائحة اتهامات بحق المتهمين قدمت في أبريل/نيسان الماضي.
وأعدت النيابة العامة في إسطنبول لائحة اتهام من 117 صفحة ضد المتهمين الصادر بحقهم قرار توقيف في إطار مقتل خاشقجي، الكاتب بصحيفة "واشنطن بوست".
وتحتوي اللائحة على اسم خاشقجي بصفة "المقتول" وخطيبته خديجة جنكيز بصفة "المشتكي"، مطالبة بالحكم المؤبد بحق "أحمد عسيري" و"سعود القحطاني"، بتهمة "التحریض على القتل مع سبق الإصرار والترصد والتعذيب بشكل وحشي".
كما تطالب اللائحة بالحكم المؤبد بحق الأشخاص الـ18 الآخرين بتهمة "القتل مع سبق الإصرار والترصد والتعذيب بشكل وحشي".
وفي سبتمبر/أيلول 2019 أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في مقالة كتبها لصحيفة "واشنطن بوست"، أن السعي لعدم بقاء الجناة من دون عقاب "دَين علينا لعائلة جمال خاشقجي".