يستمر الاحتلال الإسرائيلي في تنفيذ مخططاته الاستيطانية في مدينة القدس المحتلة، في سياق تهويدي للمدينة المقدسة، ومحاولة طمس الوجه الحضاري لها، وفي كل مرة يستخدم طريقة جديدة تعبث بجغرافيتها وتاريخها، فبالإضافة إلى بناء المستوطنات والاستيلاء على المنازل وتشريد المواطنين، وصلت جرائم الاحتلال إلى الأموات، فانتهك حرمتهم بتجريف المقابر وهدم القبور.
وفي آخر الانتهاكات، شرعت بلدية الاحتلال في القدس، بأعمال تجريف وهدم عند مدخل مقبرة اليوسفية في القدس القديمة لتنفيذ مخطط مسار "الحديقة التوراتية"داخل"مقبرة الشهداء"، وجاء ذلك بعد هدمها سور المقبرة الملاصق لباب الأسباط، وإزالة درجها الأثري، بالإضافة الى الدرج المؤدي الى امتدادها من مقبرة الشهداء، تنفيذاً لمجموعة مخططات تهويدية متداخلة، أعدت منذ فترة طويلة.
ونقلت وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" عن رئيس لجنة المقابر الإسلامية مصطفى أبو زهرة قوله إن بلدية الاحتلال داهمت المنطقة، وجرفت بالقرب من مدخل مقبرة اليوسفية في القدس، بعد أسبوع من هدم درج وسور المقبرة، في انتهاك سافر لقدسية المكان.
من جانبه أكد أحمد الدجاني، المدير التنفيذي للجنة المقابر الإسلامية في القدس أن "طاقم البلدية يعتدي بحراسة الشرطة الإسرائيلية، على أرض صرح الشهيد الملاصقة للمقبرة اليوسفية"، وفق وكالة الأناضول.
بلدية الاحتلال تقول إنها تريد إقامة حديقة ونحن لسنا بحاجة إلى حديقة، فالمقبرة اليوسفية تتكدس بالقبور، وهناك حاجة لتوسيعها وليس لمصادرة أجزاء منها
أهمية المقبرة اليوسفية
وبحسب مجلس الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية، تعتبر مقبرة اليوسفية وامتدادها أحد أهم وأبرز المقابر الإسلامية في مدينة القدس، حيث تعج برفات عموم أهل المدينة المقدسة وكبار العلماء والصالحين، إلى جانب مئات الشهداء الذين استشهدوا منذ بداية الفتح العمري.
وتعمل بلدية الاحتلال منذ فترة طويلة على محاصرة المقبرة وإحاطتها بالمشاريع التهويدية والمسارات والحدائق التلمودية على امتداد السور الشرقي، وبمحاذاة المقبرة، بهدف إخفاء معالم الممرات والمواقع التاريخية الأصيلة المحيطة بالمقبرة.
وتبلغ مساحة المقبرة نحو أربعة دونمات، وهي الامتداد الشمالي لمقبرة اليوسفية البالغ مساحتها نحو 25 دونماً، والتي تعرضت للعديد من انتهاكات أذرع الاحتلال في الآونة الأخيرة، وتعد الطريق الملاصقة لسور القدس الشرقي من أملاك المقبرة التي تمتد من منطقة برج اللقلق شمالاً حتى باب الأسباط جنوباً.
وفي عام 2014 منع الاحتلال الدفن في جزئها الشمالي وأزال عشرين قبراً تعود إلى جنود أردنيين استشهدوا عام 1967 فيما يعرف بمقبرة الشهداء ونصب الجندي المجهول.
ويحتفظ الأردن بحقه في الإشراف على الشؤون الدينية في القدس، بموجب اتفاقية وادي عربة للسلام، التي وقعها مع إسرائيل في 1994. كما وقّع الملك عبد الله الثاني، والرئيس الفلسطيني محمود عباس، في مارس/آذار 2013، اتفاقية تعطي الأردن حق "الوصاية والدفاع عن القدس والمقدسات" في فلسطين.
ومن أبرز المخططات التهويدية التي ينفذها الاحتلال في تلك المنطقة، مشروع 2020 الذي يستهدف ما أسماه الاحتلال بمنطقة الحوض المقدس (كيلومتراً واحداً حول سور القدس) إلى جانب مخطط "زاموش" الذي يطال السور الشرقي للقدس والمسجد الأقصى، ويهدف بالأساس إلى وقف تمدد مقبرتي باب الرحمة واليوسفية ووقف الدفن فيهما لاستعمال أراضيهما في المشاريع التهويدية.
ومن أكثر المخططات خطورة هو "كيدم يورشاليم" الذي يتضمن قطاراً هوائياً يبدأ بجبل المشارف شرقاً حتى جبل الزيتون وزاوية المصلى المرواني مروراً بالجنوب، ويستمر حتى جبل صهيون ومقبرة مأمن الله غرباً.
وتعد المقبرة اليوسفية من أهم المقابر الإسلامية في القدس إلى جانب مقبرتي باب الرحمة ومأمن الله اللتين واجهتا -وما زالتا تواجهان- العديد من الانتهاكات وجرف القبور ومصادرة أراضيهما ومنع الدفن فيهما.
كما باتت المقبرة اليوم مكتظة بعد منع الدفن في شمالها وحصرها في السور والشارع العام في شرقها وجنوبها، أما قسمها الغربي الملاصق للسور فيتعرض اليوم للمصادرة والجرف بدءاً من منطقة"سوق الجمعة/الحلال "التي يستعملها الاحتلال مكباً للنفايات حتى باب الأسباط.
استنكار للعدوان والتهويد
واعتبر مفتي القدس والديار الفلسطينية، الشيخ محمد حسين، تجريف قوات الاحتلال الإسرائيلي لمقبرة اليوسفية الإسلامية بالقدس"عدواناً وتهويداً".
وأوضح: "أي عبث من الاحتلال بجغرافية وحضارة هذه المدينة وتاريخها مرفوض تماماً من كل الفلسطينيين، وكل عربي حر وكل مسلم وكل أحرار العالم".
مقبرة اليوسفية جزء من المقبرة الرئيسية التي تقع خارج السور، وشكلت المدافن الرئيسية لسكان المدينة المقدسة منذ التاريخ الإسلامي الأول بالمدينة وحتى اليوم
بدورها طالبت وزارة الخارجية والمغتربين الفلسطينية، الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بـ"تحرك عاجل لوقف جرائم الاحتلال ضد المقابر والمقدسات في القدس".
وأدانت الخارجية، في بيان، "بأشد العبارات عمليات التجريف التي قامت بها سلطات الاحتلال لمقبرة اليوسفية بالقدس المحتلة".
وأضافت أن "هذه الاعتداءات تندرج في إطار مخططات الاحتلال الرامية إلى تهويد المدينة المقدسة ومحيطها، من خلال فرض تغييرات جوهرية على واقعها، وطمس هويتها الحضارية العربية المسيحية والإسلامية".
أسباب استهداف المقابر
ويرى المحامي المختص في شؤون القدس خالد زبارقة، خلال مقابلة مع TRT عربي، أن "الاحتلال الإسرائيلي يستهدف تحديداً منطقة "الجندي المجهول" وهي قطعة الأرض الملاصقة لمقبرة اليوسفية، من منطلق أنه يريد السيطرة على كل قطعة أرض فارغة في منطقة القدس وخاصة المناطق المحيطة بالبلدة القديمة والمسجد الأقصى المبارك".
وتتمثل خطورة التجريف في تلك المنطقة، في عدم احترام الاحتلال لحرمة المقابر والأموات وحق الملكية الفلسطينية على الأراضي والعقارات، وهو يخالف وينتهك تلك الحقوق بشكل صارخ، وهو اعتداء لا يستند إلى أي سند قانوني، وهذا الاعتداء ليس فقط على الأحياء، وإنما على الأموات أيضاً، حسب زبارقة.
ويؤكد زبارقة أن الاحتلال يهدف من وراء إنشاء الحديقة التوراتية إلى "تطويق المكان والمسجد الأقصى بحدائق توراتية، وهذا اسم غاية في الخطورة ونذير شؤم لما يمكن أن يحصل في محيط المسجد، فهي حدائق قائمة من منطلقات دينية توراتية، لذلك هناك هجمة توراتية من منطلقات دينية على محيط المسجد بما فيها المسارات الملاصقة للجدار الشرقي للمسجد الأقصى، مثل المسار الذي اخترق مقبرة "باب الرحمة".
ويضيف: "هناك استهداف للمقابر واعتداء عليها، وخاصة المقابر التي تحمل قيمة تاريخية ونصباً تذكارياً لشهداء حرب عام1967"، ويشدد زبارقة على دور المملكة الأردنية الهاشمية في حماية رفات جنودها المدفونين هناك، الذين استشهدوا في الحروب مع الاحتلال الإسرائيلي.
وفي الحديث عن دور الدول العربية وبالذات المُطبعة مع إسرائيل في حماية تلك الأماكن من الهدم والتجريف، يقول زبارقة: "إن العرب لم يفعلوا أي شيء لوقف هدم المقبرة، والدول المطبعة جاءت لتخدم إسرائيل وليس من أجل حماية قضيتنا، ويجب علينا أن لا نعول على أي دور يمكن أن يقوموا به"، معتقداً أن هذه "الاتفاقيات مع الاحتلال هي اتفاقيات غير قانونية وغير أخلاقية ولم تأتِ لخدمة قضايا المسلمين، بل لتتماشى مع المشروع الصهيوني".