لم تكن أزمة انتشار وباء كورونا عالمياً وحدها الدافع الأساسي وراء انعقاد اجتماع في تل أبيب بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ونظيره اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، حتى وإن كان جُلّ ما كُشف عن الاجتماع أنّهُ عُني بمباحثات حول السياحة ومكافحة الفيروس وغيرها من الموضوعات.
في ذلك اليوم الـ16يونيو/حزيران، حطت طائرة ميتسوتاكيس في مطار بن غوريون الدولي في زيارة رسمية كان الهدف المعلن لها هو التباحث في تعميق العلاقات بين تل أبيب وأثينا والتوافق على برنامج لمكافحة فيروس كورونا ووضع خطة لتنشيط السياحة بين الجانبين، بيد أن الأيام كانت كفيلة بكشف المزيد من خبايا ما دار بين الزعيمين من مباحثات، وبالأخص ما يتعلق بثروات البحر المتوسط في ظل الإصرار التركي على التنقيب عن النفط والغاز في جرف أنقرة القاري وإبرامها اتفاقية تقاسم الحدود المائية مع حكومة الوفاق الليبية المعترف بها دولياً.
منذ عام 2016 كانت إسرائيل المبادرة لإنشاء حلف بالتعاون مع مصر واليونان وجنوب قبرص لإدارة عمليات التنقيب في مياه شرق المتوسط، كما وساهمت في دعم موقف اليونان ومصر المناوئ لتركيا ومخططاتهما لبخس أنقرة حقها في جرفها القاري ومحاصرتها في بضع أميال بحرية، لتهئية الأرضية أمام مشروع إسرائيلي لمد أنابيب الغاز إلى الدول الأوروبية من جهة، والاستفراد بثروات البحر من جهة أخرى.
وتشير وسائل إعلام إسرائيلية إلى أن عشرات الاجتماعات والزيارات عقدت خلال السنوات الماضية بين الأطراف التي تشكل الحلف الإسرائيلي، وزادت منذ أعلنت تركيا أن "لا مكان لأي مشروع في المتوسط في منأى عنها ودون الرجوع إليها".
وفي السياق ذاته، من المقرر أن يزور وزير الخارجية اليوناني نيكوس دانياس تل أبيب، الخميس 13 أغسطس/آب الجاري لعقد اجتماع مع نظيره الإسرائيلي غابي أشكنازي. وتشير وسائل إعلام إسرائيلية إلى أن أحد أهم أجندة الاجتماع بين الجانبين هي بحث التطورات في البحر المتوسط في ظل التوتر بين اليونان وتركيا.
التطورات قد تدفع باتجاه معارك عسكرية لا تحبذ إسرائيل أن تكون جزءاً منها، لكن لديها علاقات عسكرية واستخباراتية مع اليونان وكذلك مصالح مع مصر
يوضح عيران ليرمان نائب مدير مركز القدس للأبحاث الاستراتيجية الإسرائيلي أن الاجتماع الأخير بين نتنياهو ونظيره اليوناني كان محوره الأساسي عمليات التنقيب التركية في البحر المتوسط وما تفرضه من تحديات أمام إسرائيل وحلفائها (اليونان، مصر، جنوب قبرص).
ويقول إن "قضية التنقيب في البحر المتوسط تحظى بأهمية بالغة لدى تل أبيب بحيث لا يمكن إهمالها"، ويشير في الوقت ذاته إلى أن التطورات قد تدفع باتجاه معارك عسكرية لا تحبذ إسرائيل أن تكون جزءاً منها، "لكن لديها علاقات عسكرية واستخباراتية مع اليونان وكذلك مصالح مع مصر".
لا تخفي إسرائيل دعمها المطلق لليونان، بل على النقيض من ذلك لا تكاد تكف عن انتقاد الخطوات التركية في البحر المتوسط، وهي انتقادات بدت واضحة خلال السنوات الخمس الأخيرة التي تزامنت مع مساعي تل أبيب لوضع خطوات لـ"حماية حقول الغاز في المتوسط".
ولم يتوقف الأمر عند حد التصريحات العابرة فحسب، إذ أجرى الجيش الإسرائيلي نهاية العام الماضي 2019، مناورات عسكرية واسعة مع جيش قبرص الجنوبية، كان الهدف منه هو "تطوير القدرات العسكرية لقوات جنوبي قبرص".
"مناورات ناجحة ومركبة في ظروف مناخية غير مريحة ووسط تحديات كبيرة"، هكذا وصف الجيش الإسرائيلي مناوراته في جنوب قبرص التي جاءت في ظل أزمة واضحة وتوتر كبير في المنطقة سببه مساعي التفرد بمياه البحر المتوسط في معزل عن تركيا وحقها في التنقيب عن الثروات في جرفها القاري.
دعم كامل لمصر واليونان
مؤخراً وبينما سعت تركيا للتهدئة وأصغت إلى دعوات الحوار، أبرمت اليونان ومصر ما يسمى بـ"اتفاقية ترسيم حدود مائية" تتجاهل تركيا وسيادتها على مياهها الإقليمية وجرفها القاري، وهو ما عدّته تركيا "كأنه لم يكن".
وعلى الرغم من التوتّر الذي أثارته الاتفاقية المزعومة التي أغضبت تركيا، فإن إسرائيل أعلنت رسمياً دعمها المطلق لليونان، إذ قالت الخارجية الإسرائيلية إن "إسرائيل تواكب التطورات في شرق البحر المتوسط من كثب، وتعلن دعمها الكامل لليونان في المناطق المتعلقة بمياهها الاقتصادية".
الفزع الإسرائيلي
في مقال له نشرته صحيفة هآرتس الإسرائيلية، يقول الصحافي والمحلل العسكري تسفي بار إئيل إن "اتفاقية ترسيم الحدود بين تركيا وليبيا أفزعت تل أبيب وأثينا"، ويصف المشهد بدقة بقوله "الاتفاقية جعلت إسرائيل واليونان تقفان على رجليهما".
ويشير إلى أن الاتفاقية من شأنها أن "تلحق أضراراً كبيرة بتصدير النفط من إسرائيل إلى أوروبا بشكل مباشر، ذلك أن أنابيب نقل النفط تمر في المياه الاقتصادية التركية".
الاتفاقية مع ليبيا لم تَرُق لإسرائيل التي عبّرت في حينه رسمياً أيضاً عن دعمها لليونان، وهو ما عبّرت عنه مرّة أخرى عند توقيع الاتفاقية بين أثينا والقاهرة على الرغم من إهمال تلك الاتفاقية حقوق تركيا بمياهها وثروات البحر.
خطط إسرائيلية !
تتلاطم الأمواج في البحر المتوسط وتتلبد سماؤه بالغيوم شيئاً فشيئاً، فاليونان لم تترك لتركيا أي خيار سوى استئناف عمليات التنقيب شرق البحر المتوسط، إذ أرسلت سفينة أوروتش رئيس ترافقها سفن حربية لبدء التنقيب، بخاصة بعدما سعت أثينا للالتفاف على مساعي الحوار المتبادل والتفاهمات من خلال توقيع اتفاقية مع نظام السيسي في مصر، الذي يشكل محوراً أساسياً في محور إسرائيل المناوئ لتركيا والهادف إلى تنفيذ مشاريع في البحر المتوسط في منأى عنها.
وفي ظل احتدام المشهد وارتفاع حدة التوتر، بدأت ترتفع في إسرائيل أصوات تنادي بضرورة تقديم الدعم لليونان ومصر على حساب تركيا في هذه الأزمة "لما في ذلك من مصالح ومنافع سياسية وأمنية واقتصادية".
وتدعو ورقة بحثية صادرة عن مركز القدس للأبحاث الاستراتيجية والأمنية المستوى السياسي في إسرائيل للإسراع في تقديم الدعم للاتفاقية اليونانية المصرية.
المشهد الحالي يمكن أن يُسقط حلف إسرائيل واليونان ومصر المعني بغاز المتوسط
وحسب الورقة، فإن التوقيع على الاتفاق بين مصر واليونان هو حدث سياسي مهم للغاية من شأنه أن يؤثر على مستقبل شرق البحر المتوسط، "وعلى إسرائيل التي تقف فرنسا أيضاً إلى جانبها أن تقدم الدعم لهذا الاتفاق في كل محمل سياسي في العالم، لأن الاتفاق يخدم مصالح إسرائيل بالدرجة الأولى، ويجب تجنيد كل حلفاء مصر واليونان من أجل ذلك وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية".
وتقول "إسرائيل ليست جهة محايدة في هذا الصراع، ربما لا تستطيع التدخل في الحرب إذا اندلعت لكن لديها علاقات عسكرية واستخباراتية مع اليونان وكذلك مصالح مع مصر".
وتشير إلى أن المشهد الحالي يؤثر سلباً على المصالح الاستراتيجية والاقتصادية الإسرائيلية، "كما يمكن أن يسقط حلف إسرائيل واليونان ومصر المعني بغاز المتوسط، "الحلف الذي ترى تركيا، وهي صادقة بذلك، أنه محاولة لاحتوائها وتقليص قدرتها على التأثير".
للمزيد، إقرأ:
- إسرائيل في مأزق.. كيف غيّرت تركيا قواعد اللعبة في شرق المتوسط؟
وتدعو الورقة البحثية إلى السعي بجهد مكثف وسريع من أجل دعم الخارطة اليونانية المصرية، "ويجب تكثيف الجهود في الساحة الأمريكية على وجه الخصوص، في ظل وجود أرضية واضحة في الكونغرس لدعم اليونان ضد تركيا".
أما سبب القلق الإسرائيلي من التوتر الحاصل في شرق المتوسط واستئناف عمليات التنقيب بالمقام الأوّل، هو ضياع حلمها بتصدير الغاز المستخرج من السواحل الفلسطينية المحتلة إلى دول الاتحاد الأوروبي عبر المياه الإقليمية لجزيرة قبرص، وهو الحلم الذي أجهضته تركيا من خلال توقيع مذكرة التفاهم مع ليبيا أولاً، ومن خلال تأكيدها حقها في مياه قبرص وجرفها القاري الذي لا يمكن لأنابيب الغاز أن تمر إلا عبره.