تابعنا
التهجير القسري في المدينة يرقى إلى "جريمة حرب" تشارك فيها سلطات الاحتلال بمختلف مستوياتها، ويستدعي تدخلاً دولياً عاجلاً.

أعادت معاناة عائلة "صب لبن" في القدس المحتلة تسليط الضوء على "التهجير القسري" الذي تُمارسه سلطات الاحتلال الإسرائيلي بحق فلسطينيي المدينة المقدسة ومخاطره على الوجود العربي في ظل عمليات التهويد المتزايدة.

ورغم أن محكمة إسرائيلية حددت 11 يونيو/حزيران 2023 موعداً أخيراً لإخلاء عائلة "صب لبن" منزلها، فإن التضامن المحلي والدولي أفشل تنفيذ القرار، وسط مساعٍ لجهات استيطانية إلى استصدار قرار إخلاء مفتوح حتى الـ26 من الشهر الجاري.

ويقطن الزوجان المسنان، نورا ومصطفى صب لبن، منزلهما الواقع في عقبة الخالدية بالبلدة القديمة بالقدس الشرقية، وفق حقوق "إيجار محمية" من الحكومة الأردنية عام 1953، حسب وكالة الأنباء الأردنية (بترا)، حيث يواجهان السلطات الإسرائيلية في المحاكم منذ أكثر من 47 عاماً.

وزارة شؤون القدس الفلسطينية قالت إن "التهجير القسري" في المدينة يرقى إلى "جريمة حرب" تشارك فيها سلطات الاحتلال بمختلف مستوياتها، ويستدعي تدخلاً دولياً عاجلاً. وعدّت قرار تهجير عائلة "صب لبن" يهدف إلى "ترحيل الفلسطينيين ضمن نظام الفصل العنصري الذي يطبّقه الاحتلال على الأرض".

وشددت على أن قرار التهجير يأتي في سياق "محاولات المستوطنين الاستيلاء على أكبر عدد من المنازل الفلسطينية في البلدة القديمة وسلوان، وتحديداً في محيط المسجد الأقصى، لأهداف لا تخفى على أحد".

مخطط "الحوض التاريخي"

يعتقد الباحث والمختص في شؤون القدس فخري أبو دياب، أن إسرائيل تمضي في إخلاء العائلات الفلسطينية في القدس ضمن مخطط ما يسمى "الحوض التاريخي المقدس" الذي يبدأ من شيخ جراح، شمالي البلدة القديمة، وصولاً إلى سلوان، جنوبي المسجد الأقصى، بما فيها البلدة القديمة في محيط الأقصى.

ويوضح في حديث لـTRT عربي، أن "حكومة نتنياهو تمضي في إخلاء هذه العائلات لتفريغ المدينة المقدسة ومحيط الأقصى، وتغيير التركيبة السكانية بحيث يكون العدد الأكبر للمستوطنين"، مؤكداً أن ما يجري "تغييرٌ للطابع الديمغرافي بإخلاء فلسطينيين وإحلال مستوطنين وإبعاد خط الدفاع الأول عن الأقصى والبلدة القديمة الذي يؤخِّر ويؤجِّل المشاريع التهويدية".

ووفق أبو دياب، تعمل إسرائيل على "تفريغ القدس وتصفية الوجود العربي فيها بشتى الوسائل وإحداها الاستيلاء على ممتلكات الفلسطينيين".

ويضيف أن "محاكم الاحتلال تُفصّل كل قراراتها على مقاس المستوطنين والمشاريع التهويدية"، متوقعاً أن تُخلى عائلة "صب لبن" في نهاية المطاف، إذ يقول إن "شرطة الاحتلال والمستوطنين ينتظرون اللحظة المناسبة للتنفيذ، مثل حدوث أمر ما في المنطقة أو العالم يصرف نظر الإعلام والمجتمع الدولي عن هذا المنزل".

وحول أهمية المنزل، يكشف أبو دياب أنه يبعد عشرات الأمتار عن "الأقصى" وسوق وباب القطانين المفضي إلى المسجد، مشيراً إلى أن "الجماعات الاستيطانية تريد خنق الأقصى بمزيد من المستوطنين لتحقيق أهدافهم والانقضاض عليه لاحقاً".

محاسبة غائبة

فيما يخص محاسبة إسرائيل في المحاكم الدولية، يؤكد أبو دياب أن "الطرد والتهجير القسري مخالف للقانون الدولي، ويعد جريمة حرب مكتملة الأركان خصوصاً لمواطنين تحت الاحتلال، حيث لا يجوز التهجير وتغيير السكان وإحلال آخرين مكانهم".

ويستدرك بالقول إن "العالم يوثِّق هذه الاعتداءات، لكنه في الوقت ذاته يكيل بمكيالين ولديه ازدواجية معايير، ما يشجع إسرائيل على التوغل أكثر في الأراضي المحتلة والإفلات من العقاب، وهو ما زاد من طرد وتشريد المقدسيين والفلسطينيين".

ويلفت إلى أن "الاحتلال يريد القدس ذات غالبية ساحقة من المستوطنين اليهود مقابل أعداد قليلة من المقدسيين تَسهل السيطرة عليهم ومحاصرة تجمعاتهم وعدم تطورها وتمددها".

ويضيف: "الاحتلال يعد أهل القدس قنبلة موقوتة؛ إذ يشكّلون 40% من عدد السكان بشطريها الشرقي والغربي، لذلك يحارب الاحتلال هذا العدد والكثافة السكانية والبعد الديمغرافي عبر مزيد من تهويد الجزء الشرقي للمدينة"، على حد قول الباحث والمختص في شؤون القدس فخري أبو دياب.

"أساليب شيطانية"

الخبير في شؤون القدس، الدكتور جمال عمرو، يقول إن إسرائيل "لا تعد نفسها احتلالاً بل إحلالاً، يعني السيطرة على الأرض والسكان والمقدرات، لهذا تقتلع الوجود الفلسطيني من كل أنحاء فلسطين، وتبقيهم في المهجر وتحافظ على نسبة ضئيلة داخل القدس وفلسطين".

ويوضح عمرو لـTRT عربي، أن إسرائيل تريد "أرض فلسطين خالية من الفلسطينيين ليحل مكانهم مستوطنون مُستجلبون من أصقاع الدنيا"، لتكون "دولة يهودية قومية بوجود أقلية عربية لا وزن لها"، حسب قوله.

ويلفت إلى أن القدس هي أهم مدينة في نظر إسرائيل، "لذلك تركز عليها بمشاريع تهويدية"، مبيناً أن "الاحتلال الإسرائيلي هجّر كل سكان الشطر الغربي من المدينة المقدسة، وسيطر على 39 حياً عبر سلسلة مجازر أبرزها دير ياسين، إذ أخلى الفلسطينيين بقوة السلاح من 80% من المدينة عام 1948".

أما فيما يتعلق بالشطر الشرقي من القدس الذي احتلته إسرائيل عام 1967، فيوضح عمرو أنه تعرض لأبشع صور التهجير القسري عبر "أساليب شيطانية وخبيثة ومليئة بالتحايل"، مستعرضاً بعضها، كسحب هوية مَن غادر المدينة لهدف التعليم وبقي خارجها 3 سنوات، وعدم منح المقدسيين رخص بناء، وكذلك الزواج من الضفة أو غزة، وسحب هوية نواب مقدسيين في المجلس التشريعي الفلسطيني وإبعادهم إلى الضفة.

ويؤكد أن إسرائيل تعد المقدسيين "مقيمين بإقامة مؤقتة، وليسوا مواطنين، وفق القانون الإسرائيلي، لذلك عندما تنتهي يُمكن للاحتلال سحبها وإجبار الفلسطيني على المغادرة".

ويبيّن الدكتور جمال عمرو أن "حكومة نتنياهو المتطرفة مستعدة للمزيد من التهجير وتضييق الحياة على المقدسيين والسيطرة على التعليم والصحة والاقتصاد والفقر الذي يحيط بالفلسطينيين"، واصفاً كل هذه العناصر بأنها "طاردة للشعب الفلسطيني".

"وهناك 101 كنيس يهودي، فضلاً عن 13 مشروعاً تهويدياً كبيراً حول المسجد الأقصى تشمل السيطرة على الأراضي ومنع الناس من البناء والاقتراب منها وتهويدها"، وفق عمرو الذي يرى أن "تهويد القدس يمضي على قدم وساق".

كما أشار إلى أن "حكومة نتنياهو اتفقت مع المتطرفين من اليهود على تعزيز الوجود اليهودي داخل الأقصى"، وأن "الحكومة الإسرائيلية تريد إسقاط اعتبار وهيبة الأقصى وإنهاء القضية الفلسطينية".

عنوان الصراع

من جانبه يشدد رئيس "مؤتمر فلسطينيي تركيا"، محمد مشينش، على أن إخلاء العائلات في القدس يندرج في إطار "خطة ممنهجة وليست عشوائية ولا تخضع لمعايير قانونية أو انتهاكات حقيقية قد تحصل من الأهالي كما يروجون، وإنما خطة لترحيل المقدسيين من البلدة القديمة".

ويؤكد لـTRT عربي، أن الصمود الأسطوري للمقدسيين "يجب ألا يُترك لقدره، بل يجب أن يكون هناك إسناد ووقفة حقيقية"، خصوصاً أن المؤسسات الدولية تصمت أمام هذه الانتهاكات وتوصّل رسالة للاحتلال بأنه فوق القانون.

وخلص في حديثه إلى أن "ملف القدس عنوان الصراع مع إسرائيل، فأي تقدم يحرزه الاحتلال في هذا العنوان هو خسارة للشعب الفلسطيني ونضالاته وتضحياته"، مشيراً إلى أن "الاحتلال يريد تحقيق شيء على الأرض بناءً على ما يطرحه في التقسيم الزماني والمكاني وفتح ممرات من البلدة القديمة وحول الأقصى لكي تسهل مهمته".

بلغة الأرقام

بدوره قال الصحفي الفلسطيني المختص بالشأن الإسرائيلي، محمد محسن وتد، إن "سياسات التهجير القسري والهدم ومصادرة الأراضي وسلب الهويات والإقامات وجدار الفصل العنصري، أدت إلى تراجع عدد السكان الفلسطينيين في القدس ليبلغ أكثر من 300 ألف".

وهذا التعداد كان سيتضاعف لولا سياسات إسرائيل ضد المقدسيين واعتماد سياسة الهجرة القسرية ضدهم وإجبارهم على الرحيل، وفق محسن وتد.

وكشف لـTRT عربي، أن هناك نحو 13 ألف مواطن مقدسي مهددين بالتهجير القسري من أحياء كاملة في محيط البلدة القديمة بمدينة القدس المحتلة، لإقامة مشاريع استيطانية، وكُنُس، وحدائق توراتية، ومتاحف.

وأضاف أنه من نتائج سياسات إسرائيل "إلغاء إقامات أكثر من 14 ألف مقدسي، وحرمان نحو عشرة آلاف طفل من حق الإقامة، ومصادرة 35% من أراضي الفلسطينيين بالقدس، وحصر البناء في 13% من مساحة المدينة".

أما فيما يتعلق بعائلة "صب لبن"، فيؤكد أن العائلة "صمدت في وجه محاولات الاقتلاع رغم استجلاب مستوطنين وسيطرتهم قبل عدة سنوات على جزء علوي من المبنى وجزء آخر منه، حيث بقيت العائلة تقطن في الطابق الأوسط الذي يحيطه الاستيطان من كل جهة".

ويختم حديثه بالقول إن جميع الحكومات الإسرائيلية عمدت إلى تجميع المقدسيين على أقل بقعة ومساحة من الأرض مقابل إطلاق العنان للمستوطنين للتوسع في القدس "بغية التفرد بها وتحقيق مخطط القدس الكبرى، لتكون عاصمةً للشعب اليهودي في جميع أرجاء العالم".

تهجير عائلة "صب لبن" سيجري لصالح منظمة داعمة للاستيطان والاستعمار، وتعلن نيتها رفع نسبة اليهود كي يصبحوا الأغلبية بين سكان القدس، وبخاصة في البلدة القديمة والأحياء الفلسطينيّة في القدس الشرقية.

ويُقدّر عدد المستوطنين الذين يقطنون المنازل التي استولت عليها منظمة "عطيرت كوهنيم" في البلدة القديمة، مُنذ إنشائها عام 1978، بألف مستوطن.

ووفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فإن 970 فلسطينياً على الأقل، منهم 424 طفلًا في القدس يواجهون خطر "الإجلاء الإجباري"، بسبب قضايا مقدَّمة أمام المحاكم الإسرائيلية.

TRT عربي
الأكثر تداولاً