عاش عدد من مدن وبلدات تشاد، نهاية الأسبوع الماضي، على وقع احتجاجات شعبية عارمة، كانت دعت لها في وقت تكتلات معارضة، من أجل التنديد بالنفوذ الفرنسي في البلاد والمطالبة بإنهاء ما سموه "الاستعمار الفرنسي" المستمر.
بينما تأتي هذه الاحتجاجات استنكاراً لمساندة فرنسا للمجلس العسكري بقيادة محمد ديبي (كاكا)، الذي تقلّد زمام السلطة بعد اغتيال والده الرئيس السابق إدريس ديبي. كما تأتي رداً على إعلان باريس نيتها بإنشاء قواعد عسكرية إضافية لقواتها في تشاد.
فيما ترتبط جذور هذه الاحتجاجات بالسياق السياسي الداخلي لتشاد، والتي تمر بمرحلة حوار وطني بين المعارضة المسلحة والنظام الحاكم. وترتبط أيضاً بالسياق الإقليمي الذي يعرف تنافساً شرساً بين فرنسا وروسيا، تحاول من خلاله باريس الحفاظ على آخر مراكز نفوذها في الساحل وتمنع البلاد أن تشهد نفس السيناريو المالي.
"تشاد حرة، وفرنسا برّه!"
وشهدت عدّة مدن وبلدات تشادية، يوم السبت 14 مايو/أيار الجاري، مظاهرات واسعة رافضة للنفوذ الفرنسي في البلاد. وذلك استجابة لدعوات كان قد عممها ائتلاف "وقيت تما" (حان الوقت) المعارض، للخروج بغرض استنكار مساندة فرنسا للمجلس العسكري الانتقالي الذي تقلد السلطة بعد اغتيال الرئيس إدريس ديبي على يد متمردين في أبريل/نيسان عام 2021.
وأطلقت قوات الشرطة التشادية الغاز المسيّل للدموع، واستخدمت مدافع المياه لتفريق مئات المحتجين الذين نزلوا إلى الشوارع. وصحبت الاحتجاجات أعمال عنف، وحرق المتظاهرون الأعلام الفرنسية وهاجموا محطات وقود شركة توتال باعتبارها رمزاً لما سموه "الاستعمار الفرنسي" المستمر للبلاد.
وكشف شهود عيانٍ لـ TRT عربي، أن متظاهرين هاجموا قاعدة عسكرية للقوات الفرنسية في أبشي، أقصى شرق البلاد، وحطموا نصباً تذكارياً كان بداخلها.
وأوضح الصحفي التشادي، محمد جدي حسن، في حديثه إلى TRT عربي أن "المظاهرات حملت شعار "تشاد حرة فرنسا برة"، وانضم إليها طلاب جامعات وثانويات، وعلى وجه الخصوص الدارسين باللغة العربية، لتهميشهم من الدولة التي تعتمد أكثر على الفرنسية". وأردف جدي حسن أن اعتقالات واسعة كانت في صفوف المحتجين، أغلبهم من الطلاب والأساتذة الجامعيين وبينهم وزير سابق".
قواعد عسكرية فرنسية في تشاد
في تصريحات له على وسائل الإعلام المحلية، بتاريخ 6 مايو الجاري، اتهم منسق ائتلاف "وقيت تما" المعارض، ماكس لولنغار، السلطات الانتقالية بالسماح لفرنسا بتأسيس قواعد عسكرية جديدة في خمس بلدات في تشاد، دون استشارة الشعب.
فيما من المرجح أن يكون هذا التعزيز العسكري الفرنسي ضمن خطة إعادة توزيع قواتها في الساحل، بعد سحبها نهائياً من مالي، حيث من المرجح أن يعاد نشرها بشكل أساسي في النيجر، إضافة إلى تشاد وموريتانيا.
بالمقابل يوضح الصحفي التشادي، محمد حسن جدي، أن "لدى المجلس العسكري ولدى فرنسا قلق كبير من المثلث الحدودي للبلاد مع كل من السودان وإفريقيا الوسطى". ويضيف مفسراً: "إذا نظرنا إلى المدن التي يحتمل أن تنشأ فيها هذه القواعد نجدها كلها أماكن استراتيجية، محاذية للمثلث الحدودي".
ويخلص المتحدث إلى أن "السودان دولة غير آمنة ولديها مشاكل، وإفريقيا الوسطى ضعيفة واقعة في قبضة مجموعة فاغنر، وبالتالي يخاف الفرنسيون من أن يخسروا تشاد جرّاء أي تهديد قادم من هناك".
هل يتكرَّر السيناريو المالي في تشاد؟
من السهل أن يلحظ المتابع أوجه الشبه بين التظاهرات الحاشدة التي شهدتها تشاد نهاية الأسبوع، وتلك التي سبقتها الشوارع في مالي وبوركينا فاسو وإفريقيا الوسطى إليها، وكانت معجلة لاندحار الوجود الفرنسي في تلك البلدان مقابل تمدد قوات "فاغنر" الروسية على حسابه.
وكان من أبرز أوجه الشبه هذه حضور العلم الروسي في مظاهرات إنجامينا يوم السبت مقرونا بالهتافات المناوئة لفرنسا. في هذا يرى الكاتب والمحلل التشادي، محمد طاهر زين، أنه لا يمكن إنكار ارتباط المظاهرات الأخيرة بسياق الأحداث في مالي، لكنه لا يرتبط معها بشكل مباشر ويبقى نتاج الأوضاع الداخلية للتشاد.
ويضيف طاهر زين في حديثه إلى TRT عربي بأنه "للمرة الثانية يُرفع العلم الروسي في انتفاضة شعبية كبيرة بالتشاد، لكن ما يميز الاحتجاج الأخير أن الشعب وصل إلى مرحلة الغليان وأراد التحرر والتخلص من ويلات المستعمر، من هنا يجب الإشارة إلى أن الشعب التشادي في الحقيقة لا يحبذ الانتقال من استعمار إلى آخر".
ويرجح المتحدث أن "الترحيب بروسيا من خلال رفع علمها في المظاهرات قد يكون مدبراً من جهات تريد التقرب من روسيا، لكنه ليس محل إجماع شعبي في الواقع". هذا وفي فبراير/شباط الماضي، كشفت محادثة مسربة لزعيم حركة "اتحاد قوى المقاومة" المتمردة التشادية، تيمان إرديمي، طلبه المساعدة من مجموعة فاغنر من أجل إزاحة رئيس المجلس العسكري الحاكم، رجل باريس محمد إدريس ديبي (كاكا).
لكن مع ذلك لا ينفي الكاتب التشادي أنه "قد يكون دور روسي فيما يحدث هنا وهناك في الدوحة في سياق المفاوضات الجارية حالياً"، في إشارة إلى مجريات الحوار الوطني التي كان قد دعا إليها رئيس البلاد محمد كاكا، من أجل تحقيق المصالحة مع الحركات المتمردة.
في هذا الصدد يعود الصحفي محمد جدي حسن، للإيضاح أن تعزيز فرنسا قواتها في تشاد يأتي كذلك وفق هذا السياق، إذ تبدو في الأفق "بوادر اتفاقية مصالحة بين النظام والمعارضة المسلحة التي تتمركز أغلبها في الشمال، وفرنسا تخاف من هذه المعارضة المسلحة، وبالتالي تعزيز قواتها قد يكون رسالة بأنها عادت لتفرض على المحادثات تصوراتها وأن يكون أي اتفاق صادر من الدوحة وفق ما أرادت باريس".