"خلال السنتين الماضيتين كنت شاهداً على كثير من المآسي والتجارب الإنسانية الصعبة لأشخاص فقدوا أفراداً من أسرهم، دون نظرة وداع أخيرة، شاهدت آلام سيدة تفقد أمّها وزوجها خلال نفس الأسبوع بعيداً عنهما، ودموع حامل تنجب مولودها وحيدة دون أن تتمكّن إلى اليوم من تسجيله، وعمّال في الخمسين فقدوا مورد رزقهم وضاعت حقوقهم بعد سنين من العمل".
بهذه المشاهد المؤلمة يصوّرُ حسن أورحو "أمين العمّال المغاربة الموجودين بسبتة"، جزءاً من واقع مئات العمّال الحدوديين بمدينتَي سبتة ومليلية، الذين يعيشون مرارات البُعد بَعد أن علقوا بالمدينتين مع إغلاق الحدود بسبب جائحة "كورونا" والأزمة الدبلوماسية بين المغرب وإسبانيا.
أصلُ هذه الحكايا يعود إلى بدايات انتشار كورونا وإغلاق المعابر الحدودية بين المغرب ومدينتيه الخاضعتين للإدارة الإسبانية، سبتة (غرب شمالي المغرب) ومليلية (شرق شمالي البلاد)، حيث وجد آلاف العمال أنفسهم "عالقين" بالمدينتين مع رفض مئات منهم العودة في رحلات إجلاء إلى المغرب خشية فقدان وظائفهم وعدم الحصول مجدّداً على بطاقة "باصي فرونتيريسو"، التي تضمن لهم العمل القانوني بالجَيبين الإسبانيَّين، وتقوم على مبدأ العمل ثم العودة بعد نهاية الدوام إلى مدنهم المغربية المتاخمة للحدود (الفنيدق والمضيق وتطوان والناظور).
لكن اليوم بإعادة فتح المعبرين الحدوديين، ومع تجاوز الأزمة الصحية وعودة الدفء إلى العلاقات بين البلدين، أعلنت السلطات الإسبانية إجراءات قانونية صارمة لتجديد بطاقات "باصي فرونتيريسو" يعتبرها العمّال الحدوديون "تعجيزية" وتهدّد استمرار عملهم بالمدينتين، ما من شأنه تشريدهم وهضم حقوقهم الاجتماعية التي كسبوها على مدار سنين طويلة من العمل.
مصير مجهولٌ أمام واقع جديد
يعمل أكثر من 3500 مغربي بمدينة سبتة، وحاليّاً نحو 250 منهم فقط سيتمكّنون من تجديد بطاقة العمل المذكورة، إذ تفرض الإجراءات الجديدة أن يتولّى المشغّل أداء جميع المستحقات الخاصة بالتأمين والتغطية الصحية والالتزامات الضريبية للعامل التي تعود إلى السنتين الماضيتين اللتين لم يعملوا خلالهما، بالإضافة إلى رفع قيمة هذه المساهمات وشروط أخرى، يراها شكيب مروان الكاتب العامّ للعمال القانونيين بمدينة سبتة "مستحيلةً وتهدف إلى وقف استقدام العمالة المغربية".
وأكّد شكيب مروان في تصريح لموقع "TRT عربي" أنّ "تعقيد الشروط الجديدة مقصودٌ ويعكس رغبة الإسبان في عدم تشغيل العمّال المغاربة من جديد"، فيما لم يُخفِ أن القرار لم يُتّخذ من الجانب الإسباني وحده، بل تمّ بتنسيق مع السلطات المغربية، مطالباً الأخيرةَ بـ"الخروج من منطقة الظلّ والتفاعل مع هذا القرار الظالم في حقّ آلاف المواطنين".
وأوضح المتحدّث أن "خطورة القرارات الأخيرة تتمثّل في كونها تأتي بعد سنتين من إغلاق الحدود وتوقُّف العمال عن العمل، بما انعكس سلباً على أوضاعهم الاجتماعية إذ لم يستفيدوا من أي دعم من المغرب أو إسبانيا، ودفع كثيرين منهم إلى بيع ممتلكاتهم الخاصة واستنفاد جميع المدّخرات لتوفير لقمة العيش لأسرهم".
حمل عديد من العمّال سواء العائدون إلى بلدانهم والذين ظلوا بالمدينتين، آمالاً كبيرة لفترة ما بعد إعادة فتح الحدود ظانّين أن أزمة كورونا مجرَّد سحابة صيف عابرة قبل العودة إلى نشاطهم العادي في العمل اليومي بين بلدهم وجانبه المسلوب، غير أنّ الأسابيع الأخيرة حملت لهم مفاجآت غير سارّة، وقفت أمام فرحة خبر إعادة حركة التنقُّل في المعبرين، ليجدوا أنفسهم أمام واقع جديد ومصير مجهول.
في شهادته لموقع TRT عربي يُبرِز حسن أورحو أن العمال المغاربة بسبتة ذاقوا الأمرَّين بعد أشهر طويلة من المعاناة النفسية والأوضاع المعيشية الصعبة، مضيفاً أن "طريقة تدبير الملفّ ترسم صورة ذهنية عن العمال كأنّنا نعمل في التهريب أو في مجال غير قانوني، في حين أننا مستخدَمونَ في مهن محترَمة في مختلف المجالات، ونساهم في اقتصاد البلدين".
ويضيف حسن أوروحو الذي لم يغادر مدينة سبتة منذ سنتين، أن العاملين المغاربة وجدوا أنفسهم أمام تجاهل كبير في ظلّ غياب من يترافع عن ملفّهم، مشيراً بتحسُّر بالغ إلى أن مستقبَلَ مئات العاملين، من بينهم أرامل وأشخاص يعولون عائلات، غامض ولا يعرفون ماذا تخبّئ لهم الأيام".
"نريد استعادة حياتنا السابقة"
غير بعيد عن سبتة لكن على الجانب الآخر من الحدود هذه المرة، بمدينة الفنيدق، قصص أخرى لمعاناة بأبعاد أخرى لأشخاص فقدوا عملهم بعد قرار الإغلاق وعادوا إلى مدنهم. سعيدةُ واحدةٌ من هؤلاء، قضت ثلاثين سنة تقطع معبر "تراخال" جيئة وذهاباً يوميّاً، غيرَ أن إغلاق الحدود فرض عليها الاستقرار بمدينتها، وانتظار الإعلان عن إعادة فتح المعبر الحدودي، غير أنه بعد أن فتح أبوابه تجدُ أمامها حواجزَ من نوع آخر.
تحكي السيدة الخمسينية بحنين إلى السنين الماضية التي تصفها بـ"الزمن الجميل"، قائلة: "رغم إكراهات العمل آنذاك فإن قساوة المرحلة الأخيرة تجعلنا نحنّ إلى العمل بشكل طبيعي عبر بطاقات العبور "باصي فرونتيرسو" التي كانت تتجدد آنذاك كل سنتين، وبعدها سنويّاً"، تضيف: "كانت الأمور تتمّ بسلاسة على مستوى الإجراءات، وبقينا على هذا الوضع إلى حين بداية كورونا، والآن نحن أمام قرارات جديدة ظالمة، نتمنّى أمامها أن نعود إلى الطريقة القديمة لا أن يفرضوا علينا تأشيرات ووثائق بشروط مجحفة".
واسترسلت المتحدثة التي تعمل مربّية لدى إحدى العائلات الإسبانية، في حديثها للموقع: "تفصلني سنوات قليلة عن التقاعد شأني شأن مجموعة من العمال الآخرين، ولا يمكن بعد كل ما راكمنا من عقود أن يُطلَب منَّا البحث عن عمل آخر في مكان آخر، بخاصة أن حقوقنا المتعلّقة بالتغطية الصحية والتقاعد ستضيع، كما أن أشخاصاً خلّفوا وراءهم بسبتة أموالاً وممتلكات لن يتمكّنوا من استعادتها إذا استمر هذا الوضع".
وفي جوابها عن سؤال حول تدبيرها أوضاعها المعيشية طوال فترة التوقّف الأخيرة، أوضحت أنها مرّت بظروف قاسية لكونها العائل الوحيدة لأسرتها، وفي مرحلة اضطُرّت إلى بيع أثاث بيتها وممتلكاتها الخاصة، وأشارت إلى أنها تعرف حالات أخرى تشرّدت وتدهورت أوضاعها الاجتماعية، ويبدو مستقبلها أكثر قتامةً إذا لم تعُد إلى العمل.
وأجمع شكيب وحسن وسعيدة في تصريحاتهم لـTRT عربي، على أن مطلبهم وغيرهم من العمال يظل إبقاء الإجراءات السابقة والتراجع عن الشروط الجديدة التي تقف أمام استعادة حياتهم السابقة وتحرم مئاتٍ موردَ رزقهم، مع ما لذلك من تبعات اجتماعية قاسية، في ظلّ غياب البديل وانحسار فرص الشغل المتوفّرة بالمغرب، مناشدين المسؤولين بالحكومة المغربية التدخُّل للدفاع عن حقوقهم.
عن موقف السلطات المغربية، حصل موقع TRT عربي على معطيات من مصدر من السلطات المحلية بمدينة الفنيدق، تفيد بأن الإجراءات المتخذة جرت بتنسيق البلدين، إذ لم تكن السلطات المغربية ترغب في استمرار العمل ببطاقات العبور اليومية، بل دائماً ما كانت تطالب السلطات الإسبانية بمنح هؤلاء العمّال بطاقات الإقامة بالمدينتين، الأمر الذي ترفضه إسبانيا ليتقرّر وضع الشروط الجديدة، وتابع المصدر ذاته بأنّ "العبور اليومي للعمال ينطوي على تحدّيات أمنية عديدة للمغرب في النقط الحدودية، ويتسبّب في خسائر اقتصادية كذلك"، لم يوضّح طبيعتها.
صفحة جديدة وملفّ حسّاس
أعاد المغرب وإسبانيا فتح حدودهما البرية في معبرَي سبتة ومليلية بداية في وقت ماضي من هذا الشهر، بعد أن أُغلقَت قبل عامين بسبب جائحة كورونا، واستمرّ هذا الإغلاق بعد تفجُّر أزمة دبلوماسية غير مسبوقة بين مدريد والرباط، عقب استضافة مدريد إبراهيم غالي، زعيم جبهة البوليساريو التي تطالب باستقلال الصحراء المغربية، وبداية شهرأبريل/نيسان الماضي، أعلنت المملكتان تجاوزهما الخلافات بعد تغيير إسبانيا موقفها إزاء نزاع الصحراء، بإعلانها دعم مشروع الحكم الذاتي الذي يقترحه المغرب، غير أنه باستثناء قرار فتح الحدود لم يُتحدَّث عن وضع المدينتين سياسياً في ظلّ الصفحة الجديدة.
الخبير المغربي في العلاقات الدولية حسن بلوان، اعتبر أن فتح المعبرين لمدينتَي سبتة ومليلة المحتلتين جاء في سياق خاص تَميَّز بتحسُّن العلاقات بين المغرب وإسبانيا بعد موقف هذه الأخيرة الإيجابي من قضية الصحراء المغربية، غير أنه لفت، بخصوص الوضع السياسي لهاتين المدينتين المحتلّتين، إلى أن النقاش حولهما يؤجَّل ضماناً لاستمرار الأجواء الإيجابية التي تمرّ بها العلاقات بين البلدين، لأنّ للملف حساسية بالغة لدى الطرفين.
وأضاف حسن بلوان في تصريح لموقع TRTعربي، أنّ مدينتَي سبتة ومليلية تلعبان دوراً كبيراً في العلاقات الاقتصادية بين البلدين باعتبارهما محطتَي عبور للأشخاص والبضائع، كما تحظيان بأهمية بالغة في توازنات العلاقات المغربية-الإسبانية السياسية، وأشار إلى أنّ فتح المعبرين مع المغرب هذه المرة سيكون مختلفاً وبشروط جديدة، بخاصة مع إصرار المغرب على القضاء على تجارة التهريب لما لها من انعكاسات على الاقتصاد الوطني.
تجدرُ الإشارة إلى أنّ وضعية المدينتين المحتلّتين منذ بداية القرن 15م بعد سقوط الأندلس، من أكبر نقاط الخلاف بين المملكتين، إذ يعتبرهما المغرب مستعمرتين، غير أن نزاع الصحراء يفرضُ عليه تأجيل المطالبة الرسمية بهما تَجنُّباً لفتح أكثر من جبهة نزاع في نفس الوقت، وتتمتّع المدينتان بحكم ذاتي وحكومات محليَّة، إضافة إلى مؤسسات أمنية وسياسية ونشاط تجاري واقتصادي، ويعترف الدستور الإسباني بكونهما جزءاً من تراب المملكة الأيبيرية.