يجري الرئيس الصيني شي جين بينغ زيارة مهمة لروسيا في ذروة حربها ضد أوكرانيا ويلتقي الرئيس فلاديمير بوتين، إذ من المتوقع أن تكثف بكين جهود الوساطة بين كييف والكرملين بعد تأمينها اتفاقاً هاماً لعودة العلاقات بين السعوديين والإيرانيين.
على الرغم من سياسة الرفض التي يتبعها الغرب تجاه الصين منذ فترة طويلة، كما يفعل بحق روسيا، على اعتبار أنها دولة استبدادية لا يمكنها تقديم نفسها نموذجاً موثوقاً به للدول الأخرى، تغلغلت الصين، وهي ثاني أكبر اقتصاد في العالم ببطء، في مناطق مثل الشرق الأوسط، حيث بات مجال النفوذ الغربي يتقلص مؤخراً بسبب الحروب والسياسات التي صممت بشكل سيء.
في الآونة الأخيرة، ومن خلال التوسط في اتفاق عودة العلاقات بين السعودية الإيرانية، لم تتمكن الصين فقط من إبراز نفسها صانع سلام في منطقة مضطربة، بل أيضاً تأمين جزء كبير من احتياجاتها من الطاقة من أكبر دولتين في الشرق الأوسط منتجتَين للنفط، وهو الأمر الذي أثار دهشة كثيرين من المراقبين الغربيين جرّاء تطورها السياسي. فالصين هي أكبر مستورد للنفط الإيراني والسعودي.
رافايللو بانتوتشي، خبير غربي بارز في شؤون الصين وزميل مشارك كبير في معهد الأبحاث البريطاني Royal United Services Institute (RUSI)، يقيّم الدور الصيني في الصفقة السعودية الإيرانية بالقول إنها "طريقة جوهرية لبدء" انخراط بكين في السياسة الخارجية "الديناميكية" في منطقة الشرق الأوسط المضطربة.
"ما يحاول الصينيون فعله هو إثبات أن لديهم عرضاً مختلفاً مطروحاً على الطاولة وليس العرض الأمريكي فحسب، وأن بإمكانهم إحضار شيء مختلف والتوسط في إحلال السلام"، كما قال بانتوتشي لـTRT World، في إشارة إلى الصفقة الأخيرة بين السعودية، القوة السنية الرائدة في الشرق الأوسط، وإيران، أكبر دولة ذات أغلبية شيعية. ففي جميع أنحاء الشرق الأوسط، تنافست القوى السنية والشيعية منذ فترة طويلة على تحقيق السيطرة السياسية.
تتوافق الوساطة الصينية مع خطط الرئيس شي العالمية، والتي بموجبها يجب أن تتقدم بكين في "إدارة الحكم على المستوى العالمي" واجهةً للشيوعية في القرن الحادي والعشرين لضمان "مزيد من الاستقرار والدفع الإيجابي للسلام العالمي"، حسب الرئيس الصيني الذي انتُخب الأسبوع الماضي لولاية ثالثة، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ الصين الحديث.
تعتبر عودة العلاقات بين السعودية وإيران فرصة سانحة سواء للشرق الأوسط كله، أو لكل من البلدَين اللذين استنزفا مواردهما من أجل تحقيق النفوذ في المنطقة خصوصاً في الدول التي يعيش فيها السنة والشيعة جنباً إلى جنب مثل اليمن والعراق وسوريا ولبنان.
وبينما يقول بانتوتشي إن الأهمية السياسية طويلة الأمد للصين في سياسات الشرق الأوسط لم تظهر بعد، فإنه يرى أن تدخل بكين للمساعدة في "الجمع بين الرياض وطهران" تعتبر طريقة متقدمة لبدء انخراطها في المنطقة. فالصفقة التي تمت لا تأتي من قبيل الصدفة على وجه التأكيد بالنسبة إلى الصين والتي تعتبر أكبر شريك تجاري مع السعودية وإيران.
"على مر السنين، بالإضافة إلى تطوير التعاون الاقتصادي والتجاري مع دول الشرق الأوسط، كانت الصين أيضاً تولي أمن الشرق الأوسط اهتماماً وتعمل بنشاط على تعزيز السلام في المنطقة" حسب قول هونغدا فان، الأستاذة في معهد دراسات الشرق الأوسط بجامعة شنغهاي للدراسات الدولية.
وأضافت في حديثها مع TRTWorld "مع تغير الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية، تحتاج الصين ودول الشرق الأوسط إلى تعميق العلاقات بينهم. لأن الافتقار إلى الأمن في الشرق الأوسط لا يجلب الصعوبات للسكان المحليين فحسب، بل يطرح أيضاً تحديات واضحة بشكل متزايد تجاه تعميق العلاقات بين الصين والمنطقة.
وتعتقد الأستاذة الصينية أن الصين ودول الشرق الأوسط ستستمر في زيادة تعاونهما في العدد من المجالات، مما يجعل العلاقات "أعمق".
- تضاؤل تأثير الغرب
في الوقت الذي يرى فيه بانتوتشي انخراط الصين في الشرق الأوسط "ديناميكية مثيرة للاهتمام"، فإنه يعتقد أن "الأمر يتعلق بوجهة نظر شعوب المنطقة مع الغرب، ولا سيما مع الولايات المتحدة، أكثر من ارتباط الأمر بالصين والشرق الأوسط".
فوفقاً لعديد من الخبراء أدى الغزو الأمريكي للعراق و"المعايير المزدوجة" الأمريكية بشأن الصراع الفلسطيني، الذي طالما ادعت الصين أنها تتبع سياسة محايدة بشأنه، إلى خلق تصور سيء لدى شعوب الشرق الأوسط تجاه الغرب. نتيجة لذلك، أصبح الشرق الأوسط أكثر انفتاحاً على النفوذ العالمي المتزايد للصين من أي وقت مضى.
ومع استياء دول الخليج من الولايات المتحدة، أصبحت الصين أكثر نفوذاً في المنطقة. في هذا الصدد، يقول سامي حمدي، المحلل السياسي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط ورئيس مجموعة إنترناشيونال إنترست للمخاطر السياسية، إنه كلما زاد تنفير واشنطن لدول الخليج، ستجد الصين فرصاً أكبر لتوسيع علاقاتها وتعاونها مع دول الخليج.
ويؤكد حمدي في حديثه إلى TRTWorld أن مواقف الصين السابقة في الشرق الأوسط كانت محدودة وذلك لأنه كانت تأتي ضمن سياسة دول الخليج التي تستخدم التقارب مع الصين لتوجيه رسالة إلى الولايات المتحدة. ولكن تحركات الصين الأخيرة تبدو مدروسة جيداً، وتأتي في سياق الإبعاد التدريجي وطويل المدى لهذه المنطقة عن تبيعتها التقليدية للولايات المتحدة"، ويضيف: "يُنظر إلى تعزيز العلاقات مع الصين على أنه وسيلة مهمة لتحقيق ذلك".
ومن بين دول الشرق الأوسط الأخرى، تشعر الرياض أحياناً بخيبة أمل بسبب تجاهل الولايات المتحدة للتهديدات التي تفرضها عليها إيران. خيبة الأمل هذه زادت من الاستياء لدى صناع القرار في الرياض الأمر الذي دفعهم للبحث عن حلفاء آخرين مثل الصين خصوصاً في ظل هجمات جماعة الحوثي، وهي جماعة يمنية مدعومة من طهران، ضد أكبر منشآت النفط في المملكة العام الماضي. يذكر أن السعودية خاضت حرباً شرسة ضد الحوثيين في اليمن منذ عام 2015.
على صعيد آخر، عززت إيران، وهي الدول المعادة للغرب والتي استهدفتها العقوبات الأمريكية منذ فترة طويلة، سياسة التقارب مع الصين بعد انسحاب إدارة ترمب من الاتفاق النووي التاريخي. كما وقعت طهران صفقة بقيمة 400 مليار دولار مع العملاق الآسيوي العام الماضي.
في النهاية، يبدو أن الغرب في حيرة من أمره فيما يتعلق بتأمين مصالح السعوديين والإيرانيين، وهما الخصمان اللدودان اللذان يقاتلان من أجل تحقيق أكبر قدر من النفوذ الإقليم في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
وترى هونغدا أن تعميق العلاقات الصينية مع الشرق الأوسط ينبع من حاجة الجانبين. وتضيف: "لدى عديد من البلدان في الشرق الأوسط أيضاً احتياجات داخلية لتنويع العلاقات الدبلوماسية".
لكن جاليا لافي، وهي باحثة إسرائيلية ونائبة مدير مركز السياسة الإسرائيلية الصينية Diane & Guilford Glazer في معهد دراسات الأمن القومي، ترى أن انفتاح الصين على الشرق الأوسط هو نهج "موجه بشكل أساسي إلى الأعمال التجارية" وليس انخراطاً سياسياً. وفيما ترى أن سياسة الصين في الشرق الأوسط تطرح "سؤالاً كبيراً" من حيت توجهاتها فإنها لا تزال تعتقد أن هذه السياسة تسند إلى حاجة الصين إلى تنويع علاقاتها الاقتصادية مع دول المنطقة المضطربة وذلك بهدف الحفاظ على الوضع هادئاً وأمناً من أجل الإبقاء على سلاسل التوريد مفتوحة والتي تعتبر أحد أبرز مقومات سياسة الصين الناعمة.
لدى سامي العريان، الأستاذ الأمريكي من أصول فلسطينية ومدير مركز الإسلام والشؤون العالمية (CIGA) في جامعة صباح الدين زعيم، وجهة النظر ذاتها. "حتى الآن، كانت سياسة الصين في الشرق الأوسط تركز على المكاسب الاقتصادية والأمن الاقتصادي فيما يتعلق بأمن الطاقة."
ويضيف: "إذا نظرنا إلى علاقة الصين مع إيران والمملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى، فهي قلقة إلى حد كبير بشأن تأمين احتياجاتها من الطاقة من النفط والغاز. لم يتطور هذا حقاً بعد إلى منافسة جيوسياسية لمحاولة اكتساب مزايا سياسية أو قواعد عسكرية أو أي نوع من النوع الذي تمتعت به الولايات المتحدة على مدى نصف القرن الماضي أو أكثر".
- تحدي الولايات المتحدة؟
ومع ذلك، لا يرى الخبراء علامات واضحة على وجود تحدٍ صيني في الشرق الأوسط ضد أكبر قوة عسكرية واقتصادية في العالم.
تقول هونغدا: "لا يمكن اعتبار علاقات الصين التي تتعمق مع دول الشرق الأوسط مجرد تحدٍ للولايات المتحدة. إذا تمكنت الولايات المتحدة من تلبية الاحتياجات التنموية لبلدان الشرق الأوسط وشعوبها، فأنا أعتقد أن الولايات المتحدة ستظل تتمتع بشعبية في المنطقة. ناهيك بأنه حتى الآن، لا بلد في الشرق الأوسط لديه القوة الكافية لتحدي الولايات المتحدة".
من جانبها، ترى لافي أن تحركات الصين الأخيرة في الشرق الأوسط مثل الصفقة السعودية-الإيرانية "مزعجة"، ومع ذلك لا تعتقد أن سياسات بكين يمكن أن ترقى إلى تحدي الولايات المتحدة، مضيفة أن "العملاق الآسيوي لا يهدف إلى استبدال الولايات المتحدة بصفتها شرطي الشرق الأوسط".
على المدى المتوسط أو الطويل، من المحتمل ألا يكون لدى الصين قواعد عسكرية في الشرق الأوسط لتحدي الوجود الأمريكي لأن بكين ليس لديها موقف عسكري عالمي يتصف بالعدوانية باستثناء في حديقتها الخلفية في المحيط الهادئ، وفقاً للعريان.
يشعر بعض الخبراء، بمن فيهم هنري كيسنجر، وهو شخصية دبلوماسية بارزة، أن الصفقة الصينية الإيرانية قد تزيد المخاوف في إسرائيل، عدوة طهران وحليف قوي للولايات المتحدة، والتي قد تصبح أكثر حرصاً في استهداف الأصول الإيرانية عبر الشرق الأوسط بعد رؤية تقارب بكين مع الدولة ذات الأغلبية الشيعية.
وحسب كيسنجر، فإن الضغط الإسرائيلي والأمريكي على طهران يحتاج الآن إلى "مراعاة" المصالح الصينية في إيران. لكن مع مرور الوقت، كما يرى العريان، "ستحاول القوى الخارجية مثل الولايات المتحدة وإسرائيل تسميم هذه الصفقة".
أما حمدي فيرى أنه "ما دامت الولايات المتحدة مستمرة في الاحتفاظ بقواعد عسكرية كبيرة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وأن أولوية دول الخليج هي جذب الشركات الغربية أكثر من الشركات الصينية، فسيكون من الصعب على بكين تحدي نفوذ واشنطن في المنطقة".
يؤكد حمدي على أن الصين تستغل الثغرات التي تفتعلها القوى الغربية في الشرق الأوسط، وتوسع نفوذها في المنطقة بدلاً من تحدي الولايات المتحدة. ويضيف أن نجاح الاستراتيجية الصينية على المدى الطويل يعتمد إلى حد كبير على قدرات بكين على الاستفادة من الإخفاقات الغربية ومدى استعداد دول الخليج مثل المملكة العربية السعودية لأي رد فعل أمريكي عنيف إذا تطورت علاقاتها مع بكين إلى مستويات أعلى.
يعتقد بانتوتشي، الخبير الصيني، أنه من السابق لأوانه القول إن الصين حلت محل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لأن السعوديين وغيرهم في المنطقة لا يزالون ينظرون إلى الولايات المتحدة ضامناً محورياً في الموضوع الأمني. ويضيف: "من السابق لأوانه بكثير القول إن الصينيين يتفوقون على الولايات المتحدة."