إلى اليوم تخوض إيران صراعاً لكسب ودّ العشائر عبر اختلاق وجهاء وشيوخ عشائر محليين يتبعون طهران رسمياً، ويأخذون دور الوكيل الفعلي في تنفيذ مخططاتها، وزجّ أبناء تلك القبائل في التشكيلات العسكرية التي تديرها إيران في سوريا، في وقت لا يحظى فيه هؤلاء "الشيوخ الوهميون" بأي اعتراف شرعي من باقي أبناء المنطقة خارج حدود مناطق سيطرة المليشيات الإيرانية، والنظام السوري، كما يؤكد أبناء تلك العشائر.
اعتمدت إيران في سوريا، على عدة شخصيات عشائرية، دانت بالولاء المطلق لها، ووضعت كل البيض في سلتها، لدرجة أنها شكّلت مليشيات من عشائرها لخدمة وتنفيذ مشاريع طهران، وأخذت تمشي خطوة بخطوة مع عملية التغلغل الإيراني على كل الصعد، العسكرية والاجتماعية والثقافية والدينية على الجغرافيا السورية، في جنوب دمشق وحلب وحماة وحمص وديرالزور والحسكة.
تمرير مشروع التشيُّع
وكما يرى خبراء ومتابعون للشأن السوري فإن وجود إيران في سوريا تَعدَّى حماية النظام السوري من السقوط، وهذا أمر لم تعُد تخفيه طهران أو تنكره، فقد وسّعت إيران أشكال الهيمنة على المشهد السوري، سواء السياسي أو الاستثمار الاقتصادي، إلى الحضور فكرياً وعقَدياً.
وهنا يوضح الشيخ إبراهيم الحاج، شيخ قبيلة قيس في المناطق المحررة، أن "إيران أغدقت الأموال على بعض الشخصيات العشائرية لتمرير مشروع التشيّع في سوريا عامة، فبنت الحسينيات، وأعطت المنتفعين من شيوخ العشائر صلاحيات واسعة، لدرجة إخراج الناس من السجون، وهذا كله يتماهى مع رؤية إيران لحكم سوريا، على المدى الطويل، ومنها على سبيل المثال إدراجها مناهج دراسية تكرّس ثقافة التشيع وتنشر اللطميات بين الأطفال، إضافة إلى دفع رواتب شهرية تصل إلى 150 دولاراً أمريكياً، إلى العوائل التي أعلنت تشيُّعها".
كيف بدأ الزحف الإيراني؟
بات مشروع إيران في سوريا، واضحاً من خلال سعيها لإقامة ممر بري من أجل الربط بينها وبين لبنان، عبر العراق وسوريا، وهذا ما دعاها إلى محاولة تغيير البنية الاجتماعية والثقافية في بعض مناطق سوريا، بالاعتماد على عدة معطيات.
أولها تَمثَّل بتبني استراتيجية طويلة الأمد في سوريا، وإذا ما سلطنا الضوء أكثر على محافظة ديرالزور، وجدنا أن طهران تجذب الأضواء إليها هناك، خوفاً من تهميشها من باقي الأطراف الفاعلة في الملف السوري، وهذا ما يشير إليه المتحدث الرسمي باسم مجلس القبائل والعشائر السورية المعارض، الشيخ مضر حماد الأسعد، في تصريح خاص لموقع TRT عربي، بتأكيده أن "الوجود الرسمي الإيراني في محافظة ديرالزور بدأ بشكل رسمي وكبير عام 2017 تقريباً بعد عملية القضاء على تنظيم داعش من قبل التحالف الدولي، فكانت المليشيات الإيرانية مع النظام السوري ينتظرون الفرصة من خلال القضاء على داعش، للتوغل في مناطق داعش، وتحديداً من القرى والبلدات الممتدة من مدينة ديرالزور مروراً بمدينة الميادين، ووصولاً إلى البوكمال التي تعتبر حالياً معقل النفوذ الإيراني بالمحافظة".
في البداية كانت إيران تستعمل الحرس الثوري الإيراني في ديرالزور، وكذلك استعانت بلواء فاطميون الأفغاني وزينبيون الباكستاني، إضافة إلى بعض الكتائب التي قاموا بتشكيلها من أبناء المنطقة تحت اسم الحشد الشعبي السوري، وأبرزهم لواء الباقر الذي عمل مع المليشيات الإيرانية في ديرالزور عام 2017 على الرغم من تشكيله في سوريا منذ عام 2014، ويقود لواء الباقر حالياً نواف البشير الذي ينحدر من قبيلة البكارة وهو معارض عاد إلى حضن النظام السوري رغم معارضته له في بداية الثورة السورية، وفق الأسعد.
ضالة إيران
ويكشف المتحدث باسم مجلس القبائل أن إيران تغلغلت في النسيج الشعبي لأهالي ديرالزور، عبر بعض المنظمات الإنسانية والخيرية، وهيمنظمة جهاد البناء، والمركز الثقافي الإيراني، ومنظمة الإمام الحسين، ومنظمة كتائب الإمام علي العراقية، موضحاً أن هذه المنظمات توجد في محافظة ديرالزور من أجل السيطرة، وذلك عبر تكوين الصداقات مع كبار شخصيات النظام السوري، أو القيادات السياسية والوظيفية والعشائرية في المنطقة، من خلال إغرائهم بالمال، وبالتالي من خلال الترغيب والترهيب نجحت طهران بأن تكون حليفاً لهم وأن يكونوا حلفاء لها، وفق ما يوضحه المتحدث.
وقد حاولت إيران أن تعمل أكثر على نشر التشيع في ديرالزور، لكنها لقيت مجابهة كبيرة جداً، في المنطقة التي هي من المكون السني الخالص بنسبة مئة بالمئة، وهذا ما شكل عائقاً أمام الحرس الثوري الإيراني للتوغل في المنطقة بشكل كامل، ولذلك اتجهت إلى وجهاء وشيوخ ومخاتير العشائر والقرى والمناطق من خلال تقديم الرشى لهم، ومن خلال مساعدتهم سياسياً وإعلامياً عبر تنصيبهم كشيوخ ووجهاء في المناطق التي يوجدون فيها، ودعمهم لدى النظام السوري، وأصبحت لهم كلمة.
وكذلك تلقّيهم مساعدات مالية من قبل رجال أعمال يتبعون للنظام السوري، ويمارسون أنواعاً من التجارة بالمنطقة كالنفط وشراء المحاصيل الزراعية، وتسهيل تعاملاتهم في بنوك تابعة للنظام السوري بشكل رسمي، وعلى رأسهم شركة القاطرجي.
وينبه المتحدث إلى أنه "رغم كل محاولات إيران لابتلاع الحاضنة الشعبية، فإنها لم تستطع أن تستقطب سوى جزء صغير بسبب الاختلاف المذهبي والعقائدي بين التشيع والتسنن".
وفي وقت يرى فيه بعض العشائر أن إيران شريك يمكن الاعتماد عليه أكثر من النظام السوري، فقد لعبت إيران خلال السنوات الأربع الماضية، وحتى اليوم، دوراً في دعوة بعض شيوخ القبائل، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر (البكارة - العقيدات - المشاهدة - البوخابور- الجبور - المعامرة - البوعاصي)، إلى زيارة إيران وتقديم الأموال والهدايا لهم، وكل ذلك من أجل هدف واحد هو أن تسيطر على العشائر العربية التي تشكل مئة بالمئة من سكان المنطقة.
لكن رغم ذلك وجدت هذه الدعوات رفضاً شعبياً، فخرج بعض المظاهرات في ديرالزور وجنوب الحسكة، التي تؤكّد أن من يذهب إلى إيران خائن، وأن شيوخ إيران لا يمثلون عشائر المنطقة بل يمثلون أنفسهم فقط، انطلاقاً من إدراك الأهالي لدور إيران في مساندة النظام السوري في قمع الثورة السورية، وقتل المدنيين وتشريد الأهالي وتهجيرهم من مدنهم وقراهم، ولا تزال اليوم تجري عمليات خطف للشباب واغتيال في المناطق التي توجد فيها بقرى ومدن خط الشامية (ديرالزور - الميادين - البوكمال).
اليوم لا تزال إيران تجتمع مع وجهاء العشائر الذين صنعتهم في سوريا من مختلف المحافظات، عبر توجيه دعوات زيارة إلى طهران ومدينة قُم بين الفينة والأخرى، من أجل لقاء القيادات الإيرانية، لكن المتحدث باسم مجلس القبائل يرى أن تأثير هؤلاء ضعيف في قبائلهم وعشائرهم، لدرجة أن تأثير بعضهم يصل إلى درجة صفر، أي ليس لهم أي تأثير لدى قبائلهم ولا في المناطق التي تسيطر عليها قوات النظام.
شيوخ أزمة
دأب الإعلام الممول من إيران على ترويج فكرة التفاف عشائر الجزيرة والفرات السورية، حول ما يسمى "محور الممانعة"، وفي هذا الصدد يذهب مضر الأسعد في حديثه مع TRT عربي، إلى تفنيد طبيعة ونوع هذا الالتفاف بقوله: "نحن في مجلس القبائل والعشائر السورية (معارض)، لنا تواصل مع شيوخ العشائر السورية من مختلف المحافظات وهم أجلّاء وأشراف (كالبقارة - العقيدات - البوخابور- العبيد - الجغايفة - المشاهدة - الجبور - المعامرة - طي - البوعاصي)، وهؤلاء كلهم يرفضون رفضاً قاطعاً التعاون مع إيران والنظام السوري، ومليشيا قسد الإرهابية، ويشدّدون على أنه لا مكان لإيران في سوريا المستقبل، فسقوط النظام السوري يعني سقوط المشروع الإيراني على كامل الجغرافيا السورية، كما يستهزئون بهؤلاء الشيوخ الذين يذهبون إلى إيران، وتستعملهم طهران كأدوات في تنفيذ مشاريعها في سوريا، ويصفونهم بنكرات مجتمعية، وشيوخ ووجهاء أزمة مزيفين، وأنه مع سقوط نظام الأسد سينتهي دورهم كاملاً، مع طرد المليشيات الإيرانية من سوريا والقضاء على تنظيم PKK الإرهابي".
اللافت في أمر وجهاء العشائر المدعومين من إيران، والذين يُجرون لقاءات دورية مع قادتها سواء داخل سوريا، أو إيران، أنهم يقيمون في العاصمة دمشق، أي بعيداً عن مدنهم وقراهم التي ينحدرون منها، وهذا ما يرجعه الأسعد إلى "خوفهم وأنهم منبوذون من أهلهم، ولممارستهم أعمالاً مشبوهة تغدق عليهم المال بتسهيل من النظام نفسه".
شيوخ في مهمة عسكرية
وحول طبيعة وأشكال التغلغل الإيراني داخل العشائر العربية في ديرالزور، أوضحت شبكة الشرقية 24 المحلية، التي تغطي أخبار ثلاث محافظات (ديرالزور - الرقة - الحسكة)، لموقع TRT عربي، أن "المليشيات الإيرانية تعتمد على شيوخ العشائر في استقطاب العناصر من المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري، لتجنيدهم لصالحها، مقابل إعطائهم ضمانات بعدم تعرضهم لأي مضايقات من أجهزة النظام الأمنية أو حتى روسيا، بالإضافة إلى منحهم رواتب مغرية تصل إلى 75 ألف ليرة سورية (25 دولاراً)، وهذا الراتب يُعتبر جيداً، بخاصة أنه يتم تزويد هؤلاء بسلال غذائية ومساعدات أخرى، وإعطاؤهم هُويات خاصة تثبت انتسابهم إلى اللواء 47، وهو لواء عسكري خاص بالمطلوبين للنظام السوري، وهم يعملون ضمن الفوج التابع لإيران، وبذلك تغنيهم هذه الهوية عن حمل الهوية السورية، أو التعرض لأي حاجز أمني تابع للأجهزة الأمنية التابعة للنظام خلال تنقلهم ضمن مناطق نفوذ النظام السوري ومليشيات إيران.
وتؤكد الشبكة أن "عناصر اللواء 47 التابع للمليشيات الإيرانية، لديهم حواجز ونقاط على المعابر النهرية في نهر الفرات، والفاصلة بين مناطق مليشيا قسد، ومليشيات إيران وقوات النظام السوري، إذ يعملون بالتهريب بهدف كسب ودهم واستقطاب المزيد من العناصر الراغبين بالعودة إلى مناطقهم والانضمام إلى المليشيات الإيرانية حصراً للتمتع بالمزايا التي تقدّمها كمغريات، علماً أن أغلب عوائل هؤلاء العناصر يقيمون في دمشق أو حمص وحماة ومناطق الشمال السوري ومناطق مليشيا PYD، حيث يقومون بتحويل الأموال إلى أهلهم هناك".
مكاتب تشغيل
وتصف الشبكة المحلية في معلوماتها التي قدمتها لموقع TRT عربي، دور شيوخ العشائر الموالين لإيران في تجنيد شباب المنطقة عسكرياً لصالح إيران، بأنه أشبه ما يكون بمكاتب التشغيل الموجودة في إيران وباكستان وأفغانستان، التي تأخذ على عاتقها تجنيد العناصر وتنظيمهم في صفوف المليشيات الإيرانية العاملة خارج حدود إيران.
تشكيل مقاومة شعبية
تَمكَّن المكتب الأمني الإيراني في مدينة البوكمال الحدودية، من جمع اللجنة الأمنية في مدينة ديرالزور، مع قيادات من الحرس الثوري الإيراني، والسبب الرئيسي للاجتماع هو دراسة تشكيل مقاومة شعبية في شرق الفرات المحاذي لمدينة البوكمال بشكل سريع، بالاعتماد على شخصيات تعمل لصالح المليشيات الايرانية في المنطقة والاستعانة بوجهاء عشائر وشخصيات تعمل لصالح النظام، وفق معلومات حصلت عليها الشرقية 24، وأطلعت عليها موقع TRT عربي.
مسؤول ملف العشائر
وقد عيّنت إيران ممثلاً خاصّاً لها للتواصل مع العشائر العربية، هو الحاج إسماعيل، إيراني الجنسية، ويشغل منصب القائد العسكري للحرس الثوري الإيراني بمدينة ديرالزور، وهو مسؤول ملف العشائر، أي إنه المسؤول عن التنسيق بين قيادة الحرس الثوري وشيوخ ووجهاء العشائر وله دور كبير في مجال الوساطات العشائرية مع إيران.
تحرُّكات على الصعد كافةً
وتعقد المليشيات الإيرانية اجتماعات مغلقة ومنفصلة بين مسؤولين إيرانيين، ونخبة من أساتذة الجامعات بمحافظة دير الزور، وأخرى مع وجهاء أو شيوخ العشائر، والهدف وفق الشبكة، إبلاغ الحضور بالاستياء الإيراني الكبير من الدور الروسي الأخير بالمنطقة، وأن الإيرانيين يعملون على حشد تأييد جميع الفاعليات في محافظة دير الزور، عبر تقديم وعود بزيادة المنح الدراسية لأبناء محافظة ديرالزور، والمساهمة في إعادة إعمار وتأهيل بعض المرافق المدمرة.
كما يقوم الحاج دهقان، القائد العام للمليشيات الإيرانية بديرالزور، ببعض الأمور التي يحاول من خلالها التقرب من شخصيات ذات ثقل عشائري في ديرالزور، ومنها قيامه بدعوة وجهاء وشيوخ عشائر البوكمال إلى مأدبة طعام في قرية السكرية، واستعرض معهم الوضع العام في منطقتهم والوقوف عند أبرز مطالبهم.
وحسب المعلومات، فإن الحاج كمال أحد مسؤولي الحرس الثوري الإيراني، اجتمع بعدد من شيوخ العشائر في مدينة ديرالزور، وذلك من أجل استكمال تشكيل ما يسمى "جيش العشائر"، بالتعاون مع شعبة المخابرات العسكرية بدمشق، على أن يتولى الحرس الثوري الإيراني تقديم الدعم المادي والعسكري له.