تتواصل في الدوحة مباحثات السلام الأفغانية -حتى السابع عشر من سبتمبر/أيلول الحالي- بحضور الوفد الحكومي وحركة طالبان. وكانت هذه المباحثات التاريخية قد انطلقت السبت بحضور دولي وإقليمي كبير، ومشاركة 14 وزير خارجية، وسط أجواء من التفاؤل بإمكانية التوصل إلى اتفاق سلام يُنهي قرابة أربعين عاماً من الصراع بين الإخوة الأعداء.
وهو تفاؤل مهّد له وزير الخارجية، نائب رئيس الحكومة القطرية، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني بتأكيد أن "اتفاق السلام الأفغاني يجب أن يكون على أساس لا غالب ولا مغلوب".
أما وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو فدعا من جانبه وفدي طالبان والحكومة إلى "عدم إهدار الفرصة التاريخية لإحلال السلام وإنهاء عقود من الحرب وسفك الدماء". وزادوزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو أجواء التفاؤل بقوله: "إن المفاوضات الأفغانية فرصة حقيقية للسلام، وتركيا على استعداد لتقديم كل أشكال الدعم لإنجاحها، بما في ذلك استضافة إحدى جولات المفاوضات". وقد لقي الاقتراح التركي باستضافة بعض جولات المباحثات -التي يبدو أنها قد تعمَّر طويلاً- استحساناً في أوساط الفرقاء، فيما دخلت دولة من أوروبا الشمالية بدورها على خط تقديم عرض الاستضافة هي الأخرى.
ولم يكن خافياً تباعد رؤى الفرقاء وحاجتهم إلى مزيد من بناء الثقة رغم حسن النية الذي تضمنته كلمات ممثليهم في الجلسة الافتتاحية، وهو الشعور الذي لم يتبدد خلال اليومين الثاني والثالث، بعد نقل المؤتمرين إلى فندق آخر ومواصلة لقاءاتهم المغلقة بعيداً عن الأضواء.
كما لم يفلح وفدا حركة طالبان والوفد الحكومي في تسطير جدول أعمال محدَّد لمباحثاتهما، وهي المهمة التي نيطت بلجنة مشتركة من 14 عضواً شُكّلت لغرض إعداد أجندة المفاوضات المباشرة والمغلقة التي انطلقت فعلياً ليل الثلاثاء بإشراف المجلس الأعلى للمصالحة الأفغانية الذي يرأسه الدكتور عبد الله عبد الله.
ويُتوقع أن تستمر هذه المباحثات مغلقة حتى السابع عشر من أيلول/سبتمبر الحالي. ويخشى المراقبون أن تلوح في الأفق أزمة شبيهة بأزمة صفقة تبادل الأسرى التي تم الاتفاق عليها في شباط/فبراير الماضي، وكادت تعصف بالمفاوضات بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان.
وقد انتظرت الحكومة الأفغانية حتى الخميس الماضي لإتمام عملية الإفراج عن أسرى حركة طالبان إذ أفرجت عن الـ400 المتبقين بموجب اتفاق تبادل السجناء، ونُقل سبعة آخرون إلى الدوحة كانت فرنسا وأستراليا عارضت الإفراج عنهم لاتهامهم بقتل أستراليين وفرنسيين في أفغانستان.
ووَفْق اتفاق الساعات الأخيرة الذي سمح بانطلاق المفاوضات في موعدها، وصل السجناء السبعة الخميس الماضي إلى الدوحة ويقبعون حالياً في الإقامة الجبرية بقطر. وتقول حركة طالبان إن لديها لائحة جديدة بالأسرى تنتظر الإفراج عنهم.
ولم تفصح حركة طالبان عن مصير المفرج عنهم، غير أن تقريراً صدر هذا الأسبوع عن مجلة "فورين بوليسي" أفاد بأن الغالبية من مساجين حركة طالبان المفرج عنهم قد التحقوا بصفوف المقاتلين، وشاركوا في عملية قتالية مسلحة مع رجال الأمن. ويضيف التقرير الذي وصفته مجلة "فورين بوليسي" في عددها الأخير بالسري، أن 68% من أصل 108 مفرج عنهم، تمت إعادة إدماجهم في أنشطة حركة طالبان بمناطق الصراع ضمن الأذرع العسكرية والسياسية للحركة.
الخلافات والتحديات
يبدو أن وفد طالبان إلى الدوحة، المشكَّل من 20 مفاوضاً بينهم 13 من المجلس القيادي، جعل الحركة تظهر منسجمة موحَّدة قوية، بفعل العوامل التالية:
فعسكرياً، تستمر حركة طالبان في سيطرتها الميدانية على ما يزيد على نصف مساحة البلاد، وقد جعلتها هذه السيطرة تناقش من موقع القوة.
أما سياسياً، فالحركة اليوم في موقف تفاوضي أقوى من أي وقت مضى منذ إبعادها عن الحكم، وهي لا تزال منتشية بمكسبها الدبلوماسي عقب توقيعها اتفاقاً مع واشنطن، في فبراير/شباط الماضي أقرّ الجدول الزمني للمحادثات التي كان من المفترض أن تبدأ في مارس/آذار وحقّق لها مطلباً رئيسياً يخصّ انسحاب القوات الأجنبية بحلول مطلع العام المقبل.
فيما عانت الحكومة الأفغانية تبعات خلافات انتخابيةتفجرت بين مرشح الرئاسة عبد الله عبد الله، والرئيس شريف غني، بعد فوز الأخير في الانتخابات التي جرت في سبتمبر/أيلول من العام الماضي.
وقف إطلاق النار وصراع الأسبقيات
جدّد وفد كابل الحكومي في أولى جلسات المفاوضات دعوته إلى وقف فوري لإطلاق النار طويل الأمد، غير أن حركة طالبان من جانبها تشترط مقابل ذلك التسريع بإطلاق سراح دفعة جديدة من أسراها لم تكشف عن عددها.
ويُجمِع راعيا محادثات السلام الأفغانية في الدوحة، قطر والولايات المتحدة، ومعهما المجتمع الدولي، على ضرورة إقرار وقف فوري لإطلاق النار في كل أرجاء أفغانستان كخطوة أولية للدفع بحوار السلام وضمان الأمن والاستقرار.
ولا تُخفي حكومة كابول تأييدها المطلق لهذه الدعوة، غير أن طالبان تساوم لتحقيق ذلك عبر جعل هذه الدعوة ثانية الأسبقيات في المسار السلمي والتعجيل أولاً بتشكيل حكومة مؤقتة، وحل الحكومة الحالية التي لا تعترف بشرعيتها. ولا يبدو الرئيس شريف غني متجاوباً مع هذا المطلب، إذ أكد مراراً رفضه حل الحكومة قبل نهاية ولايته الرئاسية في عام 2024.
إلى جانب ذلك تناور حركة طالبان في موضوع التزام وقف إطلاق النار والتشبث ببقية ثوابتها بهدف الحد من اتهامات الحركات الجهادية المناوئة لها بالمهادنة والتخلي عن آيديولوجيتها.
من هذا المنطلق تبعث طالبان أيضاً برسائل واضحة إلى تنظيم داعش الإرهابي الذي يبدو جاهداً في نقل مشروع الإمارة الإسلامية ومركز الخلافة إلى أفغانستان بعد أن وجد له موطن قدم فيها غداة خروجه من سوريا. ويجتهد تنظيم داعش من خلال حرب إعلامية في استقطاب مناصري حركة طالبان المتشددين الغاضبين من توجهها "البراغماتي".
ويقول العارفون إن حركة طالبان قد تناور لأطول وقت ممكن في موضوع الوقف الفوري لإطلاق النار، بفعل توجسها من احتمال تعرُّض صفوفها لانشقاق داخلي إذا ما نجحت المحاولات التي تقودها حركات جهادية أخرى وعلى رأسها تنظيم داعش الإرهابي، وشبكة حقاني المتشددة التي تتمركز في المنطقة الحدودية بين باكستان وأفغانستان في تشكيل تكتل جهادي مناهض لحركة طالبان. وهي المحاولة التي ترى فيها الحركة، وما تبقى من تنظيم القاعدة، سَحْباً للبساط من تحت أقدامها ودفعاً بها خارج "البيت الجهادي" في أفغانستان.
وتصرف حركة طالبان مواقفها التفاوضية في الدوحة آخذة في الاعتبار حسابات خصومها الجهاديين ورغبة المجتمع الدولي في الدفع بمفاوضات السلام لكن مع الإبقاء على ما تصفه بالثوابت.
حل الجيش.. عقدة المفاوضات
ضمن حسابات الربح والخسارة، تطالب حركة طالبان الحكومة بحل الجيش أو تقليص تعداد قواته البالغة نحو 162 ألف جندي، حسب إحصاءات العام 2019. وتضع الحركة نصب أعينها حل القوات الخاصة المشكلة من 21 ألفاً من الكوماندوز، وهي وحدات تدربت على أيدي خبراء قوات التحالف الدولي ونجحت حتى الآن في صدّ معظم هجمات التنظيمات المتطرفة ضد رموز الدولة. وحجة الحركة في ذلك أن أفغانستان لم تعُد مهددة من قبل جيرانها، خصوصاً في ضوء التقارب الأفغاني-الباكستاني والأفغاني-الإيراني. وتنظر حكومة كابول بكثير من الريبة والشك إلى هذا المطلب وترفضه جملة وتفصيلاً.
ومن السيناريوهات التي تقضّ مضاجع حكومة كابول في الظرف الراهن احتمالية أن يتراجع حجم المساعدات الدولية لأفغانستان في حال توصل محادثات السلام الأفغانية إلى اتفاق، وهي الخشية التي تطرق إليها تقرير أمريكي أعدهجون سوبكو رئيس مكتب المحقق الخاص لإعادة إعمار أفغانستان في مارس/آذار 2019. وخلص التقرير إلى كون "أكثر من 300 ألف أفغاني يعملون في قوات الأمن معظمهم مسلح"، مضيفاً: "إذا توقفوا عن تلقي رواتبهم بسبب تراجع الدعم المالي، فإن ذلك قد يشكل تهديداً خطيراً على استقرار أفغانستان".
ويضيف تقرير سوبكو أن واشنطن، منذ قيام قواتها بالإطاحة بنظام طالبان في العام 2001 أنفقت أزيد من 780 مليار دولار أمريكي كمساعدات لأفغانستان خصصت نسبة 15% منها لإعادة الإعمار فيما ذهبت 83 مليار دولار لدفع رواتب ومعدات وتدريب قوات الأمن، حسب التقرير.
طبيعة النظام.. وعودة الإمارة
لعل نقطة خلافية أخرى قد تطفو على السطح خلال هذه المفاوضات، وتتعلق بشكل وطبيعة النظام. وقد واصل قادة الحركة خلال مجموع تدخلاتهم في جلسات المباحثات، وضمن تصريحاتهم، تأكيد مبدأ "إسلامية" النظام.
وبكلمات أخرى، فإن قادة الحركة يراهنون على إحياء "الإمارة الإسلامية" كمشروع سياسي للحكم في أفغانستان. تكون فيه الشريعة الإسلامية مصدر القانون الذي يعمل على "حفظ أهل الذمة والمستأمنين وصيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ورعاية حقوقهم المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية، وتحسين العلاقات السياسية مع جميع الدول الإسلامية وفق القواعد الشرعية".
وهذه نقطة أخرى تعمق الخلاف بين حركة طالبان وحكومة كابول التي تعمل من أجل تكريس نظام ديمقراطي، وبناء جمهورية دستورية يدعمها الغرب.
وهذان الموقفان يعمقان الاختلاف حول نظام الحكم بين طالبان والحكومة الحالية. ولن يكون مجدياً إقناع حركة طالبان بالتخلي الكلي عن عقيدتها كحركة إسلامية سنية تعتنق المذهب الحنفي رغم بعض التطور الذي طرأ في السنوات الأخيرة على ذهنيات الطلاب وقادتهم.
وتلخصت تلك المتراجعات في "تخلي" الحركة عن نزعتها القومية المتطرفة بالانفتاح على شيعة الهازارا الأفغان، واعتماد خطاب مجتمعي أقل تطرفاً. وإذا كان ذلك يدخل في حسابات الحركة لمد الجسور مع إيران وباكستان والصين فإنه يعتبر محاولة أخرى تجسد الرغبة في تغليب منطق القوة والظهور -عقب إبرامها اتفاق سلام مع واشنطن- بمظهر الدولة المنضبطة القادرة على رسم استراتيجيات حل النزاعات عبر الحوار وعبر الأساليب الدبلوماسية بعيداً عن العنف ولغة الرصاص.
ولا يخفي قادة حركة طالبان حدوث تغييرات على منهاجهم، أملتها الرغبة في تغيير الصورة النمطية التي رسمها المجتمع الدولي عن الحركة إبان حكمها أفغانستان ما بين عامَي 1996 و2001، ومنها السماح للفتيات بالتعلُّم وفق منهاج الشريعة الإسلامية. لكن تلك المتراجعات تظل بنظر الغرب عديمة الجدوى وتحتاج إلى مزيد من الوضوح والإرادة، خصوصاً في جانب منح المرأة الأفغانية حقوقها الأساسية والاعتراف بحقوق الأقليات.
وتعلق واشنطن آمالاً كبيرة على نتائج مباحثات السلام الأفغانية، إذ تعمل إدارة الرئيس دونالد ترمب على توظيفها قدر المستطاع ضمن معركة الرئاسة الأمريكية. لكن أوساطا أمريكية تستبعد ظهور نتائج ملموسة في الأمد القريب، إذ تعتقد فاندا فيلباب-براون الخبيرة في شؤون أفغانستان في معهد "بروكينغز" في واشنطن، أن المفاوضات "ستكون طويلة وشاقة وقد تستمر لسنوات، قد تسودها توقفات أحياناً لأشهر عدة مع احتمال تجدد الاقتتال".
وتراهن واشنطن من جانب عسكري على عزل حركة طالبان عن بيئتها الجهادية من خلال استمرار التزامها المعلن عدم تقديم أي شكل من الدعم لما تبقى من تنظيم القاعدة ولتنظيم الدولة الإسلامية المتمركز في منطقة ولاية ننكرهار الشرقية على الحدود مع باكستان.
ويرى مراقبون أن إمكانية نجاح مفاوضات الدوحة تظل قائمة، لكن لا أحد يستطيع التكهن بما ستؤول إليه أفغانستان في قادم الأيام. وأمام هذه الوضعية، وفي حال تحقق أسوأ السيناريوهات، فإن واشنطن عبر موقف استباقي للإدارة الأمريكية عبرت صراحة عن نفض يدها من موضوع الحرب في أفغانستان، بل لقد أكّدت الولايات المتحدة أن مستقبل أفغانستان أصبح الآن في أيدي الأفغان واعتبرت أنه إذا انهارت عملية السلام ووقعت حرب أهلية فتلك مسؤولية الأفغان!