مثّل قرار المحكمة الدولية بأن تتخذ إسرائيل إجراءات طارئة لمنع وقوع إبادة جماعية في حربها على قطاع غزة، وإمهالها شهراً لتوضيح التدابير التي اتخذتها، نقلة نوعية وقراراً مفصلياً في تاريخ الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني الممتد على مدار أكثر من 80 عاماً.
وشكّل القرار نقطة حرجة لإسرائيل، بعد أن تضاعف التعاطف مع ما يحصل في غزة من جرائم بحق المدنيين العزل، ومع القضية الفلسطينية بشكل عام، خصوصاً بعد أن نال قرار المحكمة "وضع التدابير الطارئة" قبولاً من الأغلبية الساحقة للقضاة.
وجاء قرار المحكمة خالياً من وقف إطلاق النار كما طلبت جنوب إفريقيا، وهو ما فتح الباب موارباً أمام التساؤلات عن عدم إجبار المحكمة إسرائيل على وقف القتال الذي أدى إلى استشهاد أكثر من 27 ألف فلسطيني، 80% منهم نساء وأطفال.
ويرى خبراء و مختصون قانونيون أن قبول محكمة العدل الدولية نظر الدعوى المرفوعة من دولة جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، وأمرها باتخاذ تدابير طارئة تُثبت عدم ارتكاب جرائم إبادة جماعية في القطاع؛ انتصار للحق، وإنصاف للشعب الفلسطيني في القطاع، الذي ما زال يتجرع كل يوم ويلات القصف الإسرائيلي المتواصل منذ نحو 4 أشهر.
"ضوء في بداية النفق"
يبيّن الخبير وأستاذ القانون الدولي وصفي مرافي، أن محكمة العدل الدولية استندت في قرار قبولها الدعوى إلى "المادة 36" من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، التي تشترط موافقة الدولتين على إحالة القضية إليها، وأن تكون الدولة المدعى عليها قد تقدمت بموافقة مسبقة بصلاحية المحكمة، موضحاً أن قبول الدعوى ضمن هذا الإطار القانوني يعطي المحكمة الحق في إصدار الحكم الذي تراه مناسباً، بالاستناد إلى المدلولات والبيانات المقدمة من الدولة المدَّعية.
وينوه مرافي لـTRT عربي، إلى أنه رغم أن دولة فلسطين ليست طرفاً بين أطراف الدعوى، فإن ذلك لم يمنع المحكمة من قبول النظر بها، لأن إسرائيل وجنوب إفريقيا أعضاء في الأمم المتحدة، واختصاص محكمة العدل الدولية يشمل التعامل مع القضايا التي تنشب بين الدول الأعضاء، سواء كانت بطابع فردي أم بطابع دولي جماعي.
ويضيف أن قرار المحكمة تَعزّز من خلال "المادة 9" من قانونها، الذي يتضمن صراحةً "معاهدة منع ارتكاب جريمة إبادة الجنس البشري"، أو ما تُعرف بالإبادة الجماعية، وهو ما تقدمت على أساسه جنوب إفريقيا، كونها عضواً في الأمم المتحدة، مؤكداً أن "الأمم المتحدة هي المؤسسة الرئيسية التي تنظم محكمة العدل الدولية، وبالتالي يكون ميثاق الأمم المتحدة هو النص الأساسي الذي يُحدد صلاحياتها وإطار عملها ونوعية القضايا التي تأتي ضمن اختصاصها".
ويشير خبير القانون الدولي إلى أن قرار المحكمة إلزام إسرائيل باتخاذ إجراءات وتدابير طارئة تمنع وقوع إبادة جماعية، وحصرها بمدة شهر واحد لتقديم دلالات على ذلك، هو "ضوء في بداية نفق إحقاق الحق"، وإحراج كبير لإسرائيل أمام العالم بأن الشعب الفلسطيني في غزة والضفة والقدس محميون بموجب قوانين دولية، ولهم ذات الحقوق التي يتمتع بها أي شعب آخر حتى لو كانوا تحت سلطة الاحتلال.
ويؤكد مرافي أن إسرائيل مُجبرة على تنفيذ قرار المحكمة، ولا يوجد لديها مهرب إطلاقاً، لأن "قرارات محكمة العدل الدولية غير قابلة للاستئناف"، مشيراً إلى أن إسرائيل لو تعنتت يمكن لجنوب إفريقيا التوجه لمجلس الأمن الدولي ومطالبته بتنفيذ قرار المحكمة الذي رفضت إسرائيل الانصياع له.
ويلفت إلى أنه يجب البناء على هذا القرار ومتابعة نوعية التدابير التي سوف تقدمها إسرائيل للمحكمة بعد شهر، وأن تُقدم جنوب إفريقيا -صاحبة الدعوى- دلائل وبيّنات من أرض الواقع، إذا ما قدمت إسرائيل تدابير كاذبة أو غير صحيحة، موضحاً أن ذلك أمر مهم حتى يتبين لدى المحكمة ما ترتكبه إسرائيل على أرض الواقع من مجازر وجرائم كل يوم.
ويبيّن مرافي أن الأطر والإجراءات والقرارات القانونية لمحكمة العدل الدولية عادةً ما تأخذ وقتاً وقد تمتد لأعوام، "إلا أن مثول إسرائيل الآن أمام المحكمة يجعلها في الزاوية الضيقة، إذ لا يمكنها التراجع أو التنصل".
إدانة إسرائيل ممكنة
ويُحلل المختص في الدراسات الأمنية والاستراتيجية الدكتور عامر السبايلة، قرار المحكمة من المنظور السياسي أكثر مما هو قانوني، مبيناً أن القرار في الإطار العام شكّل حالة تحول عالمي بأن إدانة إسرائيل ممكنة، ومثولها أمام القضاء الدولي متاح، غير أن ذلك قد لا يكون له صدى على أرض المعركة في غزة، بعد أن باتت إسرائيل اليوم تقصف وتقتل ليل نهار، وأبعدت الأنظار عن قرار المحكمة وتبعاته، وبات الجميع يفكر بما يجري في البحر الأحمر، والأزمة مع إيران، ودور واشنطن في المنطقة.
ويضيف السبايلة لـTRT عربي، أن الحديث اليوم يتركز أكثر على "ما بعد الحرب وليس وقف الحرب، وعن دولة فلسطينية بلا سيادة ولا ملامح، وعن وجود غزة من دون حماس، وعن احتلال يسعى لشد قبضته أكثر على قطاع محاصَر جُلّ من يسكنه مُهجَّر ونازح"، مبيناً أن الحرب دخلت شهرها الخامس، ولا يوجد في الأفق ما يُدلل على المطلب الأساسي، وهو إغاثة الملهوفين ووقف القتال وإراقة الدماء.
وينوه إلى أنه وإنْ كان هناك تحول عام في القرار العالمي على أن إدانة إسرائيل أمام المحكمة ممكنة، لكن ذلك لا يتوازن مع قرارات عدة دول بتعليق دعم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (أونروا) بعد أن صوّرت إسرائيل أن العاملين في الوكالة "متورطون" في أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ويؤكد الخبير الإستراتيجي أن الأمور الإجرائية وما يحدث على أرض الواقع هو ما يهم الفلسطينيين وما يهم جنوب إفريقيا ذاتها التي طلبت صراحةً وقف الحرب في مذكرة دعوتها أمام المحكمة الدولية.
ويتساءل السبايلة عن أن قرار المحكمة وإنْ كان إيجابياً لصالح القضية الفلسطينية وبداية طريق لإنصاف العزل في غزة، لكن ماذا عن إجراءات إسرائيل المُتشددة التي تمارَس على معابر القطاع ومنعها إدخال المساعدات، ومحاصرة المستشفيات لأسابيع، واستهداف مركبات الإسعاف، واعتقال العشرات؟ مؤكداً أن كل هذا يتطلب إجراء دولياً وتدخلاً سريعاً.
ويرى أنه قد لا يكون من النافع البناء على قرار المحكمة جعل إسرائيل تقدم توصيات تضمن منع وقوع إبادة جماعية في غزة، فهذه الطريقة لن توقِف حرباً قال عنها مسؤولون إسرائيليون مراراً "إنها لن تنتهي قريباً".
توبيخ لإسرائيل
ويشير المحلل السياسي وأستاذ فض النزاعات وحيد سرحان، إلى أن الأغلبية من القضاة موحَّدون على قبول الدعوى ونظرها، وهو أمر لا يحصل في العادة.
ويضيف سرحان لـTRT عربي أنه من الناحية الإجرائية فإن قرار المحكمة ليس انتصاراً لأي طرف، إلا أنه دليل على أن المحكمة تتوجه للنظر بجدية في القضية لأجل الإنسانية والسلم العالمي، خصوصاً أن أعداد الشهداء وصلت إلى أكثر من 27 ألفاً، جلّهم من الأطفال والنساء، بالإضافة إلى المعاناة التي يعيشها سكان القطاع.
ويرى أنه "رغم كون الحكم لم يصل إلى حد تلبية طلب جنوب إفريقيا وقف إطلاق النار، فإن قرار المحكمة في إجراءاتها الأولية فرض وإلزام إسرائيل باتخاذ تدابير تمنع وقوع إبادة جماعية، هو تصرف مهنيّ حياديّ ودون تسييس".
ويردف: "وإنْ كانت المحكمة لا تملك صلاحية التنفيذ، لكنها قالت كلمتها وتصرفت بما ينص عليه القانون الدولي والمواثيق الدولية، وهو ما يعد توبيخاً لإسرائيل على أفعالها في غزة وعموم فلسطين بعد (طوفان الأقصى)".
وينوه المحلل السياسي إلى أن القرار سوف يتيح للمجتمع الدولي القدرة على ممارسة الضغط السياسي على إسرائيل، من أجل وقف استهداف المدنيين في غزة، مضيفاً أن "على الدول العربية أن تخطو خطوات باتجاه ذلك عبر التحالفات لإلزام اسرائيل بوقف القتال فوراً".
ويعتقد سرحان أن يكون في القريب تحرك دولي دبلوماسي وسياسي للضغط على إسرائيل لوقف الأعمال القتالية في القطاع، وإعلان هدنة دائمة طويلة، والدخول في مفاوضات، وإبرام صفقة تضمن حماية المدنيين، مستشهداً بما صدر عن المملكة المتحدة مؤخراً بأنها تفكر في الاعتراف بدولة فلسطين رسمياً.