فبالإضافة إلى تحرك الفلسطينيين في كافة أماكن وجودهم ضد السياسات العنصرية والقمعية لسلطات الاحتلال الإسرائيلي، واستخدام نوعية جديدة من الصواريخ ذات مدى طويل، فإن حجم التعاطف العالمي مع القضية الفلسطينية، وضد ممارسات إسرائيل القمعية كان غير مسبوق.
يرى بعض المراقبين والمحللين والخبراء بأن هذا التعاطف الكبير مع الفلسطينيين يعود إلى أن تعريف المواجهات الأخيرة كان يجري بعيداً عن الدوائر الصلدة التقليدية التي زجت فيها القضية الفلسطينية طيلة عقود وتمحورت تحديداً حول "محاربة الإرهاب" أو "معاداة السامية".
لكن في المواجهات الأخيرة جرى تحرير القضية الفلسطينية من هذا الاختطاف المفاهيمي، ولم ينظر إليها ضمن أطر محاربة الإرهاب أو معاداة للسامية بل على أنها قضية حقوقية تمس القيم الأساسية للإنسان. فما كان يجري في حي الشيخ جراح وُضع في إطار الاعتداء على حق الإنسان في الحفاظ على بيته، والإقامة فيه في مواجهة لصوص يحاولون الاستيلاء مسلحين بمجموعة من الادعاءات القانونية الهشة، وتحت حماية الأجهزة الأمنية الإسرائيلية.
ولكن على أهمية هذا الطرح ومحورية الخطاب في معادلة الصراع، وضرورة إعادة ضبط البوصلة المفاهيمية في النظر إلى القضية الفلسطينية على أنها قضية تحرر وطني وحقوق إنسان وليس إرهاباً أو معاداة للسامية، فإن هذا التعاطف والتضامن العالمي الواسع لم يكن ليحدث لولا توفر أولاً مساحة حرة، وثانياً أداة تتمتع بالخاصية الانفتاحية والتشاركية والتشابكية، وهما العاملان اللذان توفرا بشكل كبير في منصات التواصل الاجتماعي أو ما يمكن أن يطلق عليها بالشبكات الرقمية. وبذلك يكون هذا الوصول للرواية الفلسطينية حصيلة تضامن وتشابك العديد من العوامل الخطابية، والأداتية، والتكنولوجية، والظرفية.
عظمت الأحداث الأخيرة في فلسطين من النظرة البراغماتية حول الدور الذي تلعبه هذه الشبكات في التفاعلات الاجتماعية. فبعيداً عن النظرة التكنولوجية الحتمية Techno-determinism والتي ترى في هذه الشبكات مجرد أداة تكتسب الصفات والديناميات نفسها في جميع البيئات على اختلافها وتنوعها، فإن النظرة البراغماتية ترى أن تأثير هذه الشبكات ومدى دورها في التحولات الاجتماعية يعتمد على حجم التفاعل بين مكوناتها الرئيسية وهي، حسب نظرية Actor-Network للفيلسوف الفرنسي برونو لاتور، الفاعل the Actor، ويحدث هنا أن يكون الإنسان، والشبكة (الفاعل غير العاقل) the Actant، والخطاب the Discourse.
ووفق هذه النظرة فإن هذه الشبكات تتحول من مجرد كونها نظاماً تكنولوجياً إلى تنظيم اجتماعي، ومن مجرد أداة للتفاعل إلى فضاء للتحريض والتعبئة، ومن وسيلة للتعبير إلى شبكة للتنظيم. وبذلك تتجاوز هذه الشبكات بعدها التقني إلى أن تكون مشارِكة بفاعلية في هندسة الفعل الاجتماعي، وتتحرر من صبغتها المادية التي أصبغها بها دعاة المادية التكنولوجية لتتمتع بذات فاعلة قادرة على التأثير والتفاعل بشكل ذاتي. وهذه الذاتية الفاعلة هي الجوهر الذي قامت عليه تكنولوجيا الشبكات Web 2.0، وما استتبع ذلك من تقنيات من قبيل الذكاء الاصطناعي والخوارزميات، وهو ما شكل لاحقاً عصب اقتصاد الانتباه Attention Economy.
مواضيع ذات صلة:
إن الشبكات الرقمية التي بدأت في الأساس كمنصة للتعارف ما بين زملاء الجامعة ومشاركة الصور والقصص (فيسبوك) أو الآراء (تويتر) أو الفيديوهات (يوتيوب) تحولت إلى آلات للتنظيم الاجتماعي، وهذا يثبت وجهة نظر الفيلسوف الفرنسي جيلبرت سيموندون صاحب نظرية التفرد Theory of Individuation والأب الروحي لكل من جيل دولوز، و برونو لاتور، حول أن المكونات الأساسية للمادة وخصائص الشكل ليست هي العوامل الحصرية التي تملي الشكل النهائي والطبيعة النهائية لأي شيء مادي قابل للتشكل في هذا الوجود.
ولتبسيط هذه الفكرة يستخدم سيموندون استعارة غاية في البساطة ولكنها ذكية جدا تتمحور حول صناعة وتشكيل الطوب. فلا يكفي مزج المكونات وحدها ولا قالب الطوب وحده لإنتاج مادة الطوب النهائية التي تستخدم في البناء. فالقالب المطبع على نوع خاطئ من الطين، أو مع كمية كبيرة من السوائل، أو بكميات قليلة، أو بالكثير من الحجارة لن ينتج الطوب كشكل تقني نهائي صالح للاستخدام.
وبالمثل، فإن القالب ذا الصفات المختلفة (كالحجم، والشكل، والمواد، والمسامات، والصلابة، والمرونة) لن ينتج الصلصال المناسب ما لم تراع هذه الصفات وفق معايير محددة. إن قالباً بمسامات كبيرة ربما ينتج عنه لبنة ضعيفة يسهل كسرها. ولذلك ومن أجل الحصول على لبنة طوب قوية وصالحة للاستخدام لا بد من مراعاة الجمع بشكل دقيق بين هذه الظروف الدقيقة والتكوين الصحيح مع المقدار الصحيح من الوقت والإعداد المناسب، والكمية المناسبة، ومدة الضغط والرطوبة المناسبة والكمية المناسبة لملء وتفريغ القالب.
يمكن إنزال هذه الاستعارة المفاهيمية على المثال الفلسطيني مؤخراً. فالرواية الفلسطينية في الأحداث الأخيرة وشكل الخطاب تجاوز مجرد كونه انعكاساً لتحيزات أيديولوجية سابقة، أو كونه حتمية من شأنها أن تبقي هذه الرواية رهينة التشكيل الأفقي من أعلى إلى أسفل، والذي تبنته على مدار سنوات الآلات الإعلامية والمؤسسات الثقافية والسياسية التي تخضع لنفوذ مباشر للوبيات الصهيونية.
فانتقاء الألفاظ للتعبير عن الخطاب الفلسطيني مؤخراً والذي تبنى مفردات حقوق الإنسان، مع الاستخدام الفعال للشبكات الرقمية، والابتكار الذي اختلقه العديد من المؤثرين على منصات التواصل الاجتماعي، والسيل الهادر من التغريدات والهاشتاغات والمجموعات الخاصة والعامة على فيسبوك وغيرها، وضعت الخطاب الفلسطيني على أرضية ترى فيه حدثاً تقنياً اجتماعياً، يُشكّل ويتم تشكيله وفق تفرد معقّد من التشابك والتشبيك يكتسب جوهره من صيرورة مستمرة تجعل منه وسيلة وبالوقت نفسه رسالة.
هذه العوامل مجتمعة، وهذا النهج من التشكل وإعادة التشكل للخطاب الفلسطيني، هو الذي جعل منه لبنة صالحة للبناء في وجه آلة الصد والدعاية الصهيونية التي عمدت على مدار عشرات السنوات إلى طمسه وتشويهه، وإبقائه مغيباً عن فضاءات التداول العامة كما ناقش ذلك سابقاً الأكاديمي الأمريكي من أصول فلسطينية إدوارد سعيد.
والنتيجة التي ترتبت على ذلك هي أن الرواية الفلسطينية استطاعت أن تصل إلى جمهور عريض كان محروماً منها سابقاً، وقد عكس حجم التفاعل مع هذه الرواية من خلال الإمكانيات الخطابية التقنية كالهاشتاغ مدى هذا الوصول وهذا التشابك الذي حظيت به القضية الفلسطينية مؤخراً، على الرغم من سياسات التضييق الممنهج الذي تعرضت له الرواية الفلسطينية على منصات التواصل الاجتماعي.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، انتشر على نطاق واسع هاشتاغان في الهند حول الأحداث في فلسطين عبّر فيهما سكان الهند عن موقفهم تجاه ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فالذين تعاطفوا مع إسرائيل غردوا تحت هاشتاغ #IndiaStandsWithIsrael، بينما غرد المتعاطفون مع الفلسطينيين تحت هاشتاغ #IndiaStandsWithPalestine. وبعد المتابعة والرصد، تبين أن حجم التفاعل مع الهاشتاغ الثاني كان أكبر وأوسع من التفاعل مع الهاشتاغ الأول. ففي الوقت الذي كان أداء الهاشتاغ الأول بتاريخ 9 مايو/أيار ما يقرب من 23963 ألف تغريدة، كان أداء الهاشتاغ الثاني بالفترة نفسها 43647، أي ما يقرب من الضعف، وهذا يعبر عن حجم الدعم الشعبي للقضية الفلسطينية على الرغم من كل محاولات حكومة مودي اليمينية لطمس القضية الفلسطينية وذلك بعد تقارب نظامه مع إسرائيل.
في الفترة ذاتها أيضاً، كان هاشتاغ #PalestinianLiveMatter يحوز على اهتمام وانتشار واسعين، فخلال يوم واحد وتحديداً يوم 11 مايو/أيار حصد هذا الهاشتاغ ما يقرب من ربع مليون تغريدة جديدة جنباً إلى جنب مع هاشتاغ #FreePalestine و #BoycottIsrael. كما أنه حصد ما يقرب من 71 ألف بوست على إنستغرام، هذا فضلاً عن العديد من صفحات الفيسبوك التي تحمل اسم “Palestinian Lives Matter".
كما كانت تركيا وباكستان من أكثر دول العالم تغريداً على الهاشتاغات المتعاطفة مع القضية الفلسطينية، تليها الولايات المتحدة وكندا، وهو الأمر الذي يعني أن العوائق التقليدية التي كانت تقف في وجه الرواية الفلسطينية قد تزعزعت.
لقد ترجم هاشتاغ #انقذوا_حي_الشيخ_جراح إلى العديد من اللغات الحية في العالم، وبدأت منظومة التشبيك تتفاعل عبر دمج التفاعل الرقمي مع التفاعل الفعلي على الأرض لتعكس جوهر المجتمع الشبكي الذي عبّر عنه مانويل كاستل، فمجموعة الشبكات المدافعة عن حقوق الإنسان من قبيل Black Live Matters، أخذت تتلاقى مع تلك المدافعة عن حقوق الشعب الفلسطيني. وهنا بات الهاشتاغ يمثل التعبير التقني فقط الذي يقع على رأس جبل من التغييرات الخفية من التضامن المترابط، وهذا الأمر هو الذي أقلق دولة الاحتلال الإسرائيلي بشكل حقيقي ما دفعها إلى اجتراح أساليب غير معهودة سابقاً، من قبيل اللقاء المباشر الذي جمع وزير العدل الإسرائيلي مع ممثلين عن بعض شركات تكنولوجيا المعلومات مثل فيسبوك وتيك توك، من أجل حضهم على مراقبة والحد من المحتوى الفلسطيني.
أثبتت جولة الصراع الأخيرة بأن الادعاءات السابقة حول تقييد المحتوى الفلسطيني هي صحيحة إلى حد كبير، وأن الخوارزميات منحازة بشكل واضح للرواية الإسرائيلية. ومع ذلك وعلى الرغم من هذا التحيز، فضلاً عن الاعتداء المقصود على المحتوى الفلسطيني الرقمي، وحملات التضليل، والأخبار الكاذبة، فإن منطق المجتمع الشبكي، وثقافية الفضاء المستقل الناتج عنه، والنزعة التحريرية لشبكة الويب قد تغلبت على كل هذه التعقيدات، واستطاع المحتوى الفلسطيني والرواية الفلسطينية الوصول واحتلال الفضاء العام.
إن الفكرة التي يجب التركيز عليها هي أن هذه الشبكات الرقمية مع الشبكات الاجتماعية قد أصبحت نواة لفضاء عام محايد، ونظاماً للوعي الاجتماعي يتخطى الحدود، وهو أمر يجب البناء عليه من قبل رواد الحركات الاجتماعية في سعيهم نحو التغيير، والتحول الديمقراطي، وإزالة مخلفات الاحتلال وأنظمة الفصل العنصري.