لم يتعافَ الاقتصاد العالمي بعد من تبعات جائحة كورونا، ومن عواقب الحرب الروسية-الأوكرانية حتى فُوجئَ صباح السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي بحدث رأى فيه كثير من المحلّلين بداية صفحة جديدة في تاريخ منطقة الشرق الأوسط والعالم، تختلف تماماً عمّا قبلها.
ومع عملية "طوفان الأقصى" غير المسبوقة منذ 1948، وبداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، أدرك العالم أن التفاعلات السياسيّة والاقتصادية مع هذا الحدث لن تكون مماثلة لسابقاتها.
وطرَحت التطورات المتسارعة كثيراً من التساؤلات فيما يخص آثارها على الأصعدة كافة، وفي صُلبها الصعيد الاقتصادي، الذي ظل دائماً من الجوانب الأكثر تأثراً بالنزاعات والتوترات العالمية والإقليمية، سواء أكانت توتّرات في الملف الجيوسياسي أو الصحي أو غيرهما.
ومن المفارقة فعلاً أن منطقة الشرق الأوسط -التي تخلو تقريباً من وجود أيٍّ من الاقتصاديات المعروفة بـ"الاقتصاديات المتقدمة"- تثير كلّ هذا الهلع في الأسواق، رُغم أنّها لطالما نُظر إليها على أنها منطقة على هامش خريطة العالم!
الاقتصاد قبل حرب غزة
كافح الاقتصاد العالمي في سبيل تحقيق الهبوط الناعم في ظلّ دورة تشديد نقدي عنيفة أعقبت التسهيلات غير المسبوقة في أثناء جائحة كورونا، وهو ما دفع الكثير من الشركات لتخفيض مصاريفها وتسريح عمالها، ما أثار المخاوف من ارتفاع معدلات البطالة.
وبدا الوضع سبباً لخفض توقعات النمو الصادرة عن منظمة التجارة العالمية التي توقّعت في مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، انخفاض نمو التجارة، وسط تباطؤ التصنيع العالمي، مبيّنةً أن التّراجع المستمر في تجارة السلع بدأ في الربع الأخير من 2022.
وقّلصت المنظّمة من توقعاتها التجارية لعام 2023 مع الحفاظ على توقعات أكثر إيجابية لعام 2024، وقدّرت أن نمو حجم تجارة البضائع العالمية سيصل إلى نسبة 0.8% في العام الحالي، خلافاً لتوقعات نشرتها في أبريل/نيسان الماضي تنبأت بمعدلات نمو تصل إلى 1.7%.
ولعلّ من الصدف التي عمّقت الوضع أن أزمة الركود التضخمي في الولايات المتحدة وأوروبا تزامنت مع أزمة قطاع العقارات في الصين، التي حالت دون حدوث انتعاش أقوى بعد أزمة كورونا.
هذا طبعاً إلى جانب الأزمة المترتّبة على الحرب الروسية-الأوكرانية، والحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين.
ردّ الأسواق العالمية على الحرب
لطالما كانت الأسواق العالمية محدّد قياس مهماً يعكس سريعاً أي تحول عن حالة الاستقرار على الصعيد العالمي.
وعادةً ما يكون معدن الذهب من أهم الأصول التي تعكس حالة الخوف والتوتر، وهو الذي لم يخالف دوره بالفعل بعد بداية الحرب على غزة.
ومع انطلاق عملية طوفان الأقصى، ورغم استمرار ارتفاع أسعار الفائدة وترقب المستثمرين قرار الفيدرالي الأمريكي، فإننا رأينا ارتفاعاً سريعاً لأسعار الذهب منذ 9 أكتوبر/تشرين الأول، لتصل إلى مستويات تاريخية عند 2000 دولار للأوقية، وليبلغ صعودها الشهري نحو 7% خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول.
وقد رأينا ذلك الأثر يتجلى في أسعار النفط أيضاً، فرغم استمرار اتّباع سياسات نقدية متشدّدة على الصعيد العالمي تؤثر سلباً على أسعار النفط في العادة، فإنّ أسعار النفط ارتفعت بوتيرة سريعة بين 9 أكتوبر/تشرين الأول و20 من الشهر نفسه، وصعد سعر خام برنت من 84.4 دولار في آخر إغلاق أسبوعي إلى 93.8 دولار.
أسباب المخاوف من توسع الصراع
تُعد منطقة الشرق الأوسط من أهمّ مناطق الملاحة بالنسبة إلى التجارة العالمية، فهي المنطقة التي تضم كلّاً من قناة السويس (مصر)، ومضيق هرمز بين إيران وسلطنة عُمان، ويمثلان إلى جانب مضيق باب المندب اثنين من أهم شرايين الملاحة وحركة التجارة الدولية.
ويعد مضيق هرمز الشريان الرئيسي لحركة ناقلات النفط البحرية من دول الخليج إلى العالم، بما يمثل نحو ثلثي إمدادات العالم من النفط.
كما تعد قناة السويس الرابط الرئيسي بين شرق آسيا ودول أوروبا، وتوفر ما يصل إلى 11 يوماً من الملاحة عبر طريق رأس الرجاء الصالح، ويمرّ عبرها نحو 12% من الملاحة التجارية العالمية، مما يضعها في صلب حركة التجارة الدولية.
بالتالي، فإن المخاوف من توسع دائرة الصراع مبنية أساساً على مخاوف من تعطل حركة الملاحة في هذين الممرين المائيين، في حال توسع نطاق الحرب.
ويظهر العامل الثاني للتخوّف من اتساع دائرة الصراع في الخشية من تعطل عمل المصافي النفطية ذاتها، ما يؤثر على الحلقة الأولى في سلسلة إمدادات النفط.
ورغم أنه لم يعد هناك تخوف حقيقي حاليّ من فكرة أن تتجه دول مجلس التعاون الخليجي إلى استخدام النفط سلاحاً للضغط على الغرب لفرض وقف إطلاق النار في غزة، فإنه لا تزال ثمة خشية قويّة من الانخفاض القسريّ للإنتاج.
وتأتي هذه التخوفات من حقيقة جيوسياسية تتمثل في أن اليمن يعد أحد أهمّ حلقات ما يعرف بـ"حلف المقاومة" الذي ينطلق من إيران وينتهي بالمقاومة الفلسطينية، مروراً بسوريا والعراق ولبنان.
وقد صرحت إيران أكثر من مرة سواء مباشرةً أو عن طريق زعامات جماعة الحوثي وحزب الله اللبناني، بأنها ترى أنّ إسرائيل ليست إلّا أداة بين يدي الولايات المتحدة الأمريكية، وأن الصراع الرئيسي مع واشنطن.
وقد بدأت إرهاصات هذا التخوف من إيران وحلفائها في الاستهداف المتكرر لآبار النفط في العراق وسوريا، التي تتحكم فيها الولايات المتحدة، ما يعني ضمنياً أن المتضرر الأول من توسع دائرة الصراع ستكون مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، بما تشمله من آبار للنفط وقواعد عسكرية وخلافها.
وأما العامل الثالث، فيظهر في آثار عدم الاستقرار الاقتصادي التي ستتمخّض في دول المنطقة حال توسع الصراع.
ويمكن تلخيص مشهد الأضرار هذا في قطاعات السياحة وتقلّص الواردات وتفاقم أزمة الديون، وهو ما سيؤثر آلياً على الاقتصاديات الكبرى التي تكافح حالياً لتجنب سيناريو الركود الاقتصادي.
ويَنظرُ الكثير من المحلّلين إلى الوضع الراهن ومستقبل منطقة الشرق الأوسط، على أنه غامض لا يرجَّحُ فيه احتمال على آخر.
من ناحية، يبدو أن إيران متردّدة في الانخراط بشكل كبير في الحرب، خصوصاً بعد نقل الولايات المتحدة الأمريكية عَتادها النووي وحاملات الطائرات إلى بحار المنطقة.
ومن ناحية أخرى، تعلن أركان "حلف المقاومة" في اليمن والعراق ولبنان عن انخراطها في الحرب ولو بأشكال محدودة، ولهذا يظل السؤال بخصوص تطورات الوضع مبهماً إلى أن يُفصح ميدان المعركة عن إجابته.
كيف ستتأثر التجارة الدولية؟
بغضّ النظر عن المآلات قريبة المدى التي قد يؤول إليها القتال بين المقاومة الفلسطينية والقوات الإسرائيلية، فإن العمليّة العسكرية لكتائب القسام عزّزت مخاوف أمريكا والغرب تجاه ما يعرف بـ"حلف المقاومة".
ورغم أن إيران لم تنخرط بقوة في هذا الفصل من الصراع، فإنه بات مفهوماً أنه لا يمكن التسامح مع وجود أي قوة إقليميّة معارضة للهيمنة الغربية في المنطقة، لا سيّما بعد "الخداع الاستراتيجي" لحماس، وهو ما قد يجعل سيناريو الحرب الإقليمية وشيكاً.
من جانب آخر، بات واضحاً لدى المعسكر الشرقي وعلى رأسه الصين، حجم مشاعر الغضب والكراهية المتنامية لدى الشعوب العربية تجاه الهيمنة الغربية، ما قد يسهّل توسيع النفوذ السياسي الصيني في المنطقة بما يتبعه من اتّساع للنفوذ الاقتصادي، وهذا المعطى قد يثير "حرباً اقتصادية"، بسبب تقليصه النفوذ الاقتصادي الغربي.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن فصول هذه الحرب الاقتصادية قد بدأت بالفعل مع تبني الولايات المتحدة الأمريكية مشروع الطريق التجاري المنطلق من الهند مروراً بالإمارات والسعودية ثم الأردن والأراضي الفلسطينية المحتلة، ليعبر البحر المتوسط إلى أوروبا، وذلك في مواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية.
هل حرب غزة من حلقات أفول التجارة المعولمة؟
وفق مقال منشور في دوريّة "التمويل والتنمية" الصادرة عن صندوق النقد الدولي، عنوانه "ازدياد التهديدات للتجارة العالمية"، فإن مسار أفول عصر العولمة المفرطة للتجارة الدولية قد بدأ بالفعل.
وحسب الكاتبة بينيلوبي غولدبيرغ، فإنّ هناك ثلاث مراحل قد تحققت فعلاً من هذا المسار، بدأت أولاها مع قرار بريطانيا مغادرة الاتحاد الأوروبي عبر آلية "بريكست".
ومثّلت الحلقة الثانية ارتفاع دعوات التحلي بـ"الصلابة الاقتصادية" في أعقاب جائحة كورونا وما خلّفته من أضرار على سلاسل الإمداد العالمية.
وأما المرحلة الثالثة، فظهرت في أعقاب الحرب الروسية-الأوكرانية وما أبرزته من هشاشة في حجم وسلسلة الواردات الأوروبية، خصوصاً فيما يتعلق بالوقود الحيوي.
ويعزّز تلك النظرة تصاعد التوترات الجيوسياسية وتشابكها مع الملف الاقتصادي أيضاً.
وخير دليل على ذلك ما حدث في أواخر عام 2022، حين أصدرت وزارة التجارة الأمريكية تدابير استثنائية واسعة لحظر صادرات رقائق أشباه الموصلات وغيرها من معدات التكنولوجيا المتقدمة إلى الصين.
وأكثر من ذلك، تسرَّبت تلك النبرة الحمائية إلى العلاقات بين الدول الحليفة، حتى رأينا أن قانون خفض التضخم الأمريكي (IRA) ينصّ على الدعم المباشر للصناعات الأمريكية في القطاعات التي تحتدم فيها المنافسة مع نظيرتها الأوروبية.