تحوي محافظة إدلب، التي تمتد على مساحة واسعة في الشمال السوري، عديداً من الآثار الهامة والمُوغِلة في القِدَم، والمدرجة على لائحة التراث العالمي، ولكن انتهاكات عديدة تتعرض لها المواقع الأثرية، منها الهدم والتدمير نتيجة القصف الذي طالها من نظام الأسد، فضلاً عن سكن بعض النازحين في المواقع الأثرية وتغيير معالمها.
إدلب تضم ثلث آثار سوريا
مدير مركز الآثار في إدلب أيمن النابو يتحدث لـTRT عربي عن الآثار الموجودة في إدلب بقوله: "محافظة إدلب من أقدم البقاع وأغناها بالآثار، إذ تحتوي على ثلث آثار سوريا، وقد بلغ عدد المواقع الأثرية في محافظة إدلب 760 موقعاً أثرياً مسجَّلاً بالقوائم الوزارية، تعود إلى حِقَب زمنية مختلفة، منها 5 باركات تشمل 40 قرية أثرية مسجلة على لائحة التراث العالمي، فضلاً عن عديد من المواقع ذات الأهمية التراثية الكبيرة التي تعود إلى الفترة الإسلامية بعهودها كافة، كما تضم محافظة إدلب أكثر من 200 تل أثري، ارتبطت أسماؤها بأسماء القرى القريبة منها، وهي تشكل 50% من التلال الأثرية السورية".
ويشير النابو إلى أن محافظة إدلب تحوي العدد الأكبر من المدن "المنسية" أو "الميتة" التي سُمّيت بهذا الاسم لأن سكانها هجروها منذ أكثر من ألف عام، ويعود تاريخها إلى ما بين القرنين الأول والسابع للميلاد من الحقبة البيزنطية، وقد وضعتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو) على قائمة التراث العالمي، وتشمل عدداً من المساكن والمعابد الوثنية والكنائس والأحواض والحمامات العمومية، ومنها ما هو موجود في جبل الزاوية الذي يضمّ كثيراً من أمهات المواقع الأثرية، فمن البارة إلى سرجيلا، التي تضم الكنائس والمدافن الهرمية والحمامات الرومانية والأديرة والمغارات، إضافةً إلى القصور والمباني الطابقية في كل من مجليا وبترسا وبعودا وبشلا ووادي مرتحون، وغيرها".
إضافة إلى التجمعات الأثرية الأخرى الموجودة إلى الشمال والغرب من إدلب، فهي تحتضن مواقع يغلب عليها الطابع الديني، وفي مقدمتها كنيسة "قلب لوزة" التي أضحت لغزاً محيّراً ببقائها شبه سليمة حتى اليوم، وتفردها المكاني وجمالها من الداخل، إذ تعود إلى أواخر القرن الخامس، وتُعتبر لؤلؤة العمارة البيزنطية السورية.
مواقع أثرية في مناطق الاشتباك
تعرضت آثار إدلب لانتهاكات خطيرة، منها التخريب والتنقيب العشوائي، كما تَعرَّض عديد من الأبنية الأثرية (كنائس، مدافن وقصور وبيوت وأسوار) للقصف بمختلف أنواع الأسلحة من قوات الأسد، والطيران الروسي الذي شن غارات مكثفة على المنطقة خلال سنوات الحرب، وعن ذلك يقول النابو: "خلال الحملة العسكرية الأخيرة التي شنّها نظام الأسد وحلفاؤه على ريف إدلب الجنوبي، واتباع سياسة الأرض المحروقة، تَضرَّر عديد من المواقع الأثرية بالقصف المباشر، منها سرجيلا ومملكة إيبلا، إضافة إلى تضرُّر مواقع في جبل الزاوية ومعرة النعمان ومنطقة خان شيخون بشكل شبه كامل".
ويؤكّد النابو أن النظام السوري سيطر على ما يقارب 100 موقع أثري مؤخراً بريف إدلب الجنوبي، ولم تَسلَمْ تلك المواقع من حقده وانتقامه، إذ نبش عناصره ضريح الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، الذي يقع بريف معرة النعمان الشرقي، وأحرقوا المبنى وسرقوا محتوياته.
مواقع أثرية ملاذ للنازحين
كما أصبح بعض المواقع الأثرية ملاذاً لنازحين تقطعت بهم سبل الحياة في ريف إدلب الشمالي، بسبب اكتظاظ المخيمات، وانتشار وباء كورونا، وغلاء إيجارات المنازل... وهي تعد من الانتهاكات الواقعة على المناطق الأثرية، فمنهم من يعمد إلى تكسير الأحجار الكبيرة لاستخدامها في البناء من جديد، أو إزاحة أحجار أثرية، إلى جانب الطهي وتسخين المياه باستخدام الفحم والحطب ضمن المباني الأثرية أو بجانبها، مما يتسبب في تشققات وتشويه لهذه المباني.
كما أقام بعض النازحين والمهجرين أو من فقدوا بيوتهم خيامَهم أو شرعوا في بناء منازلهم في تلك المناطق، علماً بأن عمليات البناء تتطلّب عمليات جرف وحفر الآثار.
أبو أحمد (45 عاماً) نازح من ريف معرة النعمان الشرقي، أب لخمسة أطفال، يسكن في الموقع الأثري "بابسقا" منذ أكثر من ستة أشهر، وعن سبب ذلك يقول لـTRT عربي: "أسّسنا مسكناً لنا داخل إحدى الغرف الموجودة في القصر، حيث فرشت الأرضية وسددت الفجوات في الجدران، وصنعت سقفاً لها من بعض الصفائح الحديدية، إضافة إلى إزالة بعض الأحجار التي كانت تقع في طريقنا وتعوق حركتنا".
ويشير أبو أحمد إلى أنه يستخدم موقداً للطهي وتسخين المياه بين حجارة الموقع الأثري الذي يسكنه.
كذلك عبد العزيز الحسن، نازح من جبل الزاوية بسبب تَعرُّض قريته للقصف المستمر، يقيم مع زوجته وأبنائه الثلاثة في موقع "باقرحا"، وعن ذلك يقول: "استأجرت قطعة أرض على مقربة من الموقع الأثري باقرحا، وبنيت عليها خيامنا، ولكنني لم أتمكن من دفع بدل الإيجار الشهري لكوني عاطلاً عن العمل منذ نزوحنا، الأمر الذي ألجأني إلى نقل خيامنا إلى الموقع الأثري".
مبادرات لحماية الآثار
بهدف حماية الآثار أُسّس مركز الآثار في إدلب مطلع عام 2012، وهو مركز مستقلّ، بجهود مجموعة من المهتمين وخريجي كلية الآثار، يعمل في الشمال السوري المحرَّر، ويركز على إيجاد سبل الحماية، من خلال نشر التوعية، ورفع المستوى الثقافي بأهمية الممتلكات الثقافية لدى شرائح المجتمع كافة.
كما نفّذ عدة محاولات لحماية ما تبقى من آثار إدلب، وقدم الحماية لآلاف القطع الأثرية من خلال تغليفها ووضعها في صناديق خاصة وفق الطرق العلمية المتبعة، وإعداد استمارات خاصة لكلّ قطعة أثرية، بعد إخضاع الكوادر لدورات عملية ونظرية في مجالات الترميم وطرق التوثيق الحديثة، كما يسعى مؤخراً لافتتاح متحف مدينة إدلب الذي يضمّ مجموعة من القطع الأثرية، منها أوان فخارية وجِرار ورقم مسمارية، وعدد من التماثيل ولوحات من الفسيفساء، علماً بأن المتحف فتح أبوابه عام 2018، لكنه أغلق بسبب الحملة العسكرية الأخيرة على إدلب وريفها.
وعن المتحف يضيف النابو: "كان يحوي إضافة إلى عشرات آلاف القطع، مكتشفات مملكة إيبلا التي تعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، وهي نصوص كُتبت على ألواح من طين، وتُعَدّ من أهمّ المكتشفات الكتابية التي شكّلت الأرشيف الملكي الذي أرّخ تاريخ المنطقة بعدد من جوانبها السياسية والاقتصادية والدينية والزراعية، لكن عناصر من النظام السوري عمدوا إلى نهب القطع الأثرية الثمينة من المتحف قبل مغادرة المدينة".
ويؤكد النابو أن المتحف بات اليوم متنفَّساً يفتح أبوابه لاستقبال الزيارات والرحلات المدرسية لتقديم المعلومات وتعريف الطلاب الحقب التاريخية التي مرت على المنطقة.
تُعتبر آثار إدلب شاهداً على تاريخ البشرية والتطور الحضاري على مر العصور، وهي كنز يجب تحييده عن الصراع، والاتجاهات السياسية أو العسكرية كافة، والتعاون بين الجهات كافة للحفاظ على ما تبقى من أوابد وممتلكات أثرية تدق ناقوس الخطر.