أما أصوات سيارات الإسعاف فتبعث في الذاكرة مشاهد الإنقاذ، وصور الحروب والنزاعات في وطن عربي يعاني في أغلبه من ميادين مشتعلة أو متزعزعة مختلفة الأسباب، ولكن ذات تأثير واحد على المواطن ألا وهو الآثار النفسية الجسيمة التي تستمر معه لوقتٍ طويل.
يظن بعض المغتربين عن أوطانهم غالباً، أنهم يتخلصون من سيل الذكريات التي عايشوها والأحداث التي وجدوا أنفسهم بها، بمجرد مغادرتهم أرض الوطن، لكنهم في لحظة ما يُحاصَرون بما مضى. فبعض المغتربين حاضرهم يستدعي ماضيهم بمجرد أن يجدوا شبهاً لما عايشوه. فكيف لهم أن يتخطوا ذاكرة مليئة بمشاهد الحروب والصراعات والنزاعات في بلد جديد؟
" السبب.. اضطراب ما بعد الصدمة"
من بيروت-لبنان التي شهدت انفجاراً ضخماً ومفاجئاً لمرفئها عام 2020م، كان واحداً من الأسباب التي دفعت لبنانيين إلى الاغتراب، تقول نجوى أبو عيد حكيم، معالجة ومحللة نفسية، لـTRT عربي: "ما يعانيه الإنسان عموماً بعد وقوع حدث مفاجئ له أو في المحيط الذي يعيش فيه هو صدمة نفسية لها وقعها على صحته العامة، وتبقى آثارها معه سواء اغترب أم لم يغترب ويبدأ في المعاناة من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، دون أن يكون واعياً -في الغالب- أنه يعاني وتستوجب معاناته علاجاً نفسياً مدروساً إلى أن يتخلص مما يعانيه ويتمتع بجودة حياة تمكّنه من ممارسة أنشطته اليومية بفاعلية".
وعن أعراض اضطراب ما بعد الصدمة توضح أبو عيد حكيم فتقول: "في البداية يعاني الشخص المصدوم من اضطراب النوم والأرق والكوابيس، بالإضافة إلى استرجاع الأحداث والذكريات التي مر بها ويرى في كل مرة أنه يعيشها مرة أخرى، فتتكرر لديه مشاعر الخوف والرهبة التي عايشها في ما سبق، ويحاصر نفسه بنفسه فيشعر بالضيق والاختناق وعدم الراحة، لهذا يتجنب كل ما يذكره بما عاشه، سواء أشخاص أو أماكن أو روائح معينة، فجميع هذه الأمور تعمل كإشارات تنبيهية ومثيرات للمشاعر الكامنة والمكبوتة بداخله، لهذا يعيش في حالة انفصال عن الواقع ولا مبالاة وعزلة يفرضها على نفسه".
تؤكد أيضاً عن علاقة الاغتراب بالصدمة النفسية واضطراب ما بعد الصدمة: "المشكلة ليست في أن الإنسان قد ذهب إلى دولة أخرى ليعيش وينسى ذكرياته المؤلمة، المشكلة في الإنسان المصدوم نفسه، فهو يحمل معه صدمته النفسية أينما ذهب سواء في وطنه أم في بلد آخر، فالصدمة النفسية تستوجب علاجاً نفسياً، وقد يظن المغتربون أنهم إذا اغتربوا نسوا!".
وعن علاقة الغربة باضطراب ما بعد الصدمة توضح د.أبو عيد حكيم لـTRT عربي: "من يعانِ من اضطراب ما بعد الصدمة يتجنب كل ما يذكره بصدمته في ذلك الوطن والأماكن التي عاش بها ومر منها أيضاً، وتكون الغربة مجرد سلوك تجنبي هرباً غير مباشر من ذكرى الصدمة، وقد لا يكون الشخص واعياً أنه يهرب مما يكمن به، يهرب من مشاعره ومخاوفه وأحزانه التي تبقى معه إذا لم ينتبه إلى حقيقتها ويتحرر منها مبكراً جداً، كي لا تنعكس مشاعره هذه على طريقته وأسلوبه في الحياة وتعامله مع الغير".
التشافي ممكن بالرغبة التامة والجهد المبذول
ومن غزة-فلسطين، التي شهدت أربع حروب دامية كانت آخرها أشدها تدميراً ووقعاً على النفس، يقول رامي بريك، إخصائي نفسي لـTRT عربي: "كل ما يعاني منه المغترب في بلد الغربة وله علاقة بالأوضاع المتزعزعة التي عايشها تُشخَّص على أنها اضطراب ما بعد الصدمة، ويمكن التشافي منه عبر جلسات نفسية مستمرة ومجدولة، وقد يحتاج بعض الحالات إلى العلاج بالأدوية".
وعما يمكن للحالات التي تعاني أعراضاً طفيفة -كالخوف الزائد والمبالغ فيه- أن تفعله لتتحسن، يبين أ.بريك: "التمارين الرياضية هي الخيار الأول والأيسر لكل ما تعانيه النفس مع ذاتها، فهي تعمل على تفريغ الجسم من طاقته السلبية، ومن أفضل أنواع التمارين: الجري والسباحة، كما أن الحديث إلى شخص مقرب يساعد على التخلص من التراكمات".
يبين بريك لـTRT عربي: "من خلال الحديث يُعبَّر عن مكنونات النفس من مخاوف ومشاعر الهلع، فيتحرر الإنسان المصدوم تدريجياً من صدمته، ويفيد تكرار هذا النوع من الأحاديث لأنه يساهم في تفريغ الكبت والضغط النفسي، ويمكن للشخص أن يمارس هواياته أو التمارين الرياضية التي يفضلها ويستمتع بها للتخلص من التراكمات، كما يفيده التفريغ النفسي بالتعبير عن مشاعره التي عايشها ويكون الحديث مع شخص يثق به كثيراً، ويفيده أكثر تكرار التفريغ من خلال التعبير بالكلام حتى يخفف احتقان المشاعر التي يختزنها".
ويؤكّد أثر الجلسات العلاجية فيقول: "في الجلسات العلاجية تُعدَّل أفكار الشخص المصدوم، بالنسبة إلى الحدث الصادم من خلال أفكاره ومشاعره، فإذا ما تغيرت الأفكار للناحية الإيجابية، تغيّرت الحالة النفسية إلى الأفضل، ودور المعالج النفسي هنا مهمّ، فعبر أسئلته وطريقته في النقاش يستطيع انتشال المريض مما هو فيه من أفكار سلبية وآثار نفسية".
وفي ختام حديثه لـTRT عربي يضيف بريك: "الصدمة الحديثة توقظ الصدمات القديمة والكامنة في كبار السن، فعلى سبيل المثال في حرب غزة الأخيرة استرجع كبار السن المشاعر التي عايشوها عام 1948م، وما حدث في النكبة الفلسطينية من مجازر وأهوال حرب، وهم خلال الحرب عاشوا آلاماً نفسية مضاعفة أكثر مما عايشه الجيل الحديث".
ويبدو أن الآثار النفسية التابعة للحدث الصادم مثل بقعة داكنة شديدة الالتصاق فوق قطعة بيضاء، إلا أن جسد الإنسان ونفسه هو بديل لهذه القطعة، وهو يحتاج إلى إزالة كل ما تلطخ به من بقع جديدة أو قديمة، ليحافظ على سلامته النفسية أينما حلّ وارتحل، وإلا أصبحت حياته كما يقول مصطفى صادق الرافعي: "لا تتم فائدة الانتقال من بلد إلى بلد إلا إذا انتقلت النفس من شعور إلى شعور، فإذا سافر معك الهمّ فأنت مقيم لم تبرح".