أوقات صعبة يعيشها الأتراك والسوريون منذ وقوع الزلزال الذي ضرب جنوب شرقي تركيا وشمال سوريا، وفيما يزال الآلاف تحت الأنقاض حتى هذه اللحظة كُتبت حياة جديدة لآلاف آخرين جرى انتشالهم من تحت الأنقاض، ولكنهم أمام صدمات نفسية كبيرة.
الكلّ معرض لاضطراب ما بعد الصدمة!
تتنوع استجابات الإنسان في الأيام القليلة التابعة للكارثة، فمع استمرار إغراق الجهاز العصبي بضغوطات نفسية هائلة ناتجة عن الخسائر البشرية والمادية الضخمة فإنّ هذا الإجهاد يتشكل بهيئة أعراض نفسية تتراوح بين الخفيفة والجلية شديدة الوطأة، وغالباً ما تأتي وتختفي على شكل موجات، فعلى سبيل المثال قد يشعر المتضرّر بالتوتر والقلق والخوف والارتباك والغضب، فيما تساوره مشاعر انفصال وخدر تام في أوقات أخرى، وقد يصل به الحال إلى أن يشعر بالندم والعار لأنه نجا فيما قضى الباقون تحت الأنقاض، وقد يجد نفسه غارقاً في مجموعة من المشاعر المتضاربة في آن واحد.
لا يقتصر الأمر على الأعراض النفسية، بل ويُظهر هذا الإجهاد النفسي نفسه عن طريق أعراض جسدية مثل الشعور بالدوار والإغماء والتعرق المفرط والارتجاف وآلام في الصدر وصعوبة في التنفس واضطرابات في المعدة ومشكلات في الذاكرة وآلام غير مبررة.. وتطول القائمة.
من المهم التأكيد على أنّ جميع هذه الأعراض قد تخف وطأتها مع مرور الوقت إذا ما جرى التعامل معها بالشكل السليم، وإلا فقد يفتح هذا الباب للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) والذي قد تظهر أعراضه بعد شهر من حدوث الكارثة أو حتى سنوات، والإصابة به قد ترفع خطر الاضطرابات والمشكلات النفسية الأخرى مثل القلق والاكتئاب، واضطرابات الأكل، والسلوكيات الانتحارية.
من الجدير بالذّكر أنّ جميع هذه المشاعر والأعراض لا تقتصر على الأشخاص الذين عايشوا الحدث، فنحن في عالم باتت فيه تغطية الأخبار وتناقل الصور والفيديوهات عبر وسائل التواصل الاجتماعي متاحة على مدار الساعة، فتعرضنا جميعاً لصور مروعة للمآسي والمعاناة والخسارة، ما يمكن أن يربك أجهزتنا العصبية لتخلق ضغطاً نفسياً مؤلماً تماماً كما لو كنا عايشنا الحدث بشكل مباشر.
بعد نجاته الجسدية.. كيف ينجو المتضرر نفسياً؟
يجب التأكيد في البداية أنّ حجم الكارثة يفوق قدرة تحمل الكثيرين، وأنّ كل ما يمكن فعله في الوقت الراهن هو محاولة للتخفيف في سبيل درء الإصابة بأمراض نفسية شديدة لاحقاً، وبشكل أساسي ومبدئي فإنّ توفير المساكن الآمنة ووسائل التدفئة في هذه الأجواء الباردة والتذكير بأنّ الخطر زال قد يشكل حجر الأساس لأي دعم نفسي قادم، فإن كنت على تواصل مع أحد المتضررين حاول ألّا تغمره بحديث يدلّ أنك تشعر بما يشعر به، فقد يجد صعوبة في تصديقك لكونك لم تجرب في الحقيقة أن تجد نفسك عالقاً تحت الأنقاض. بالمقابل حاول أن تترك الحديث لهم وأن تكون مستمعا جيداً، إذ إنّ التعبير عن الحزن والغضب واليأس في هذا الوقت مهم حتى لا تتراكم هذه المشاعر لتشكّل إجهاداً مزمناً على الجهاز العصبي، وإن كان المتضرر لا يرغب في الكلام أبداً فلا بدّ من عدم الإصرار عليه لفعل ذلك، فكما أشرنا سابقاً تختلف طريقة تعبير المتضرر وتعامله مع الكارثة.
من الجيد أن نذكرهم أن ما يشعرون به طبيعي وأن هذا سيستمر لفترة من الزمن، وقد يكون لتشجيعنا لهم على الانخراط في تقديم المساعدة للآخرين، إن سمح الحال، دورٌ في تجنب خلق مشاعر الندم لديهم. كما يفضّل محاولة تشجيعهم على بناء نسق معين للأيام الأولى بعد الكارثة مثل محاولة مساعدتهم في ضبط وقت النوم والأكل ليقلّ تأثير وقع شعور عدم الاستقرار لديهم، وتعزيز شعورهم باستعادة قدرتهم على التحكم التي ضربها الزلزال.
بالطبع فإنّ المثالي في هذه الظروف الحصول على المساعدة الطبية النفسية المتخصصة، إذ قد يتطلب الحال صرف الأدوية للتعامل مع مشاعر القلق والتوتر واضطرابات النوم والأكل إلى جانب اتّباع أشكال العلاج النفسي الأخرى بشكل منتظم في الشهور القادمة.
تخفيف وطأة الحدث على الأطفال
جميعنا تابعنا ذلك الطفل السوري الذي خرج من تحت الأنقاض ضاحكاً ويلاعب رجال الإنقاذ، والطفل التركي الذي أبدى انزعاجه من إيقاظ رجال الإنقاذ له من نومه تحت أنقاض بيته، وفي حين أنّه لا نملك نحن البالغون رفاهية عدم التأثر الشديد بالمآسي الحاصلة عقب الزلزال، فإنّ عدم إدراك الأطفال لحجم المأساة الحقيقي قد يلعب دوراً في تخفيف الأعراض النفسية التي قد يتعرضون لها إذا جرى التعامل معهم بالشكل الصحيح. ولذلك، من المهم للأهالي أو لأي من كان في بيئة الطفل في هذا الوقت من الكارثة تذكر أنّ طريقة تعامل الطفل مع الكارثة تعتمد بشكل أساسي على طريقة تعامل من حوله معها. كما أن تنفيذ أمور قد تبدو بسيطة مقارنة بحجم الكارثة قد يساعد في درء خطر تطور الأعراض التي قد يمرون بها لأمراض نفسية طويلة الأمد، مثل احتضان الطفل وإشعاره أنّه بأمان، إلى جانب إعطائه المجال الكافي للحديث عن مشاعره دون حثه على الصمت أو عدم البكاء، إذا لا صواب أو خطأ في طريقة تعبير الطفل أياً كانت.
من المهم محاولة ثني الطفل عن محاولة إعادة إحياء الحدث الصادم عن طريق تجنيبه رؤية أي صور أو فيديوهات تتعلق بالزلزال وآثاره، والإجابة على أسئلة الطفل حول أسباب حدوث الزلزال بشكل علمي مبسط، كما يلعب تشجيع الطفل على أنشطة تُبقي عقله مشغولاً دوراً إيجابياً كذلك. يمكنك أن تقرأ للطفل أو تلعب معه أو تدفعه إلى العب مع الاطفال الآخرين، ويفضل أيضاً سؤال الطفل عن ماذا يريد أن يفعل، فقد يشعر البعض بالارتياح لو شاركوا بعمليات مساعدة الآخرين ضمن قدراتهم وحسب الفئة العمرية، والمثالي في هذه الظروف محاولة بناء روتين مشابه لحياة الطفل ما قبل حدوث الزلزال والحصول على الرعاية الطبية النفسية المتخصصة.