انتشرت زراعة الورد في محافظة إدلب شمالي سوريا خلال السنوات الأخيرة، إذ تلقى هذه الزراعة إقبالاً ورواجاً من أهالي المنطقة، وتعرف الوردة بعدّة أسماء منها "الجورية" أو "الشامية" أو "السلطانية"، وغيرها.
وتُستخدم هذه الورود لأغراض صحية وعلاجية وتجميلية، كما يُستخرج منها زيت عطري شهير وهو (زيت الورد).
وتبدأ زراعة الورد مع أول فصل الشتاء، بينما تبدأ عملية القطاف في فصل الربيع وتستمر حتى نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول من كل عام، إذ تُحصد بشكل يدوي ولا يمكن حصادها عن طريق الآلات، لمنع أي ضرر أو أذية للوردة، حسب مزارعين.
زراعة هاجرت مع أصحابها
وليد الزين (41 عاماً) مهجّر من غوطة دمشق إلى بلدة كللي شمالي إدلب، زرع أرضه بالورد الجوري هذا العام، وعن جدوى مشروعه يقول: "زرعت أرضي -التي تبلغ مساحتها 10 دونمات- هذا الموسم بالورد الجوري، وهو من النوع الشوكي، ويعدُّ من أفضل أنواع الورد الذي يتمتع بالرائحة الزكية والعطر الفواح".
ويؤكد في حديثه لـ"TRT عربي" على أنّ كل دونم من الأرض يحتاج إلى شراء شتلات ورد بمبلغ 40 دولاراً أمريكياً، فضلاً عن الحاجة لشراء الأسمدة والمبيدات وتكلفة الأيدي العاملة وشبكات الري بالتنقيط، إذ تصل تكلفة كل دونم 100- 150 دولاراً أمريكياً.
ويشير الزين إلى أنّ الورود تُستخدم في صناعة خلطات شاي الأعشاب، وأدوات التجميل واستخلاص ماء الورد الذي يُستخدم في صناعة الحلويات وبعض الأغذية، فضلاً عن استخدام الورود في إعداد المُربَيات والعصائر.
وكانت تتم هذه الزراعة سابقاً بكميات محدودة في الحدائق المنزلية والمشاتل، لكنها اليوم تزرع في مساحات كبيرة، إذ دخلت مجال الإنتاج والاستثمار على أيدي نازحين من ريف دمشق؛ نظراً لخبرتهم بها ومعرفتهم تفاصيل زراعتها بشكل جيد، حسب الزين.
فرص عمل
ويُحقق هذا المشروع فائدة اقتصادية أيضاً، إذ توفر الزراعة فرص عمل ومصدر رزق للعديد من النساء المعيلات، في ظل تصاعد نسب الفقر وقلة فرص العمل في المنطقة.
وتخرج علية الحسون (29 عاماً) -النازحة من مدينة معرة النعمان إلى بلدة كللي شمالي إدلب- مع أختها صباح كل يوم للعمل في قطاف الورد الجوري، وعن قصتها تقول: "فقدت زوجي إثر تعرضه لإصابة حربية منذ بداية عام 2020، واضطررت للعمل في الورشات الزراعية للإنفاق على نفسي وولدي، لذا وجدت مع أكثر من 10 نساء أخريات فرصة للعمل في هذا الموسم، من خلال زراعة الورد وقطافه".
وتلفت في حديثها لـTRT عربي إلى أنّه رغم الأشواك الكثيفة والناعمة فهي تجد متعة في هذا العمل، نظراً لمنظر الورود الجميلة ورائحتها العطرة.
وكذلك الخمسينية عائشة الأحمد، من بلدة كفرعروق شمالي إدلب، تمشي بين شتلات الورد، وتقطف المتفتحة منها بخفة ونشاط، وتضعها في ثوبها الفضفاض، وتتحدث عن ظروفها المعيشية تقول، إنّ زوجها مريض ومتعطّل عن العمل، وقد تزوج أولادها واستقلوا بمعيشتهم، لذا تضطر إلى العمل في المواسم الزراعية لكي تحصل على لقمة العيش.
وتُبيّن السيدة لـTRT عربي أنّ عملها يمتدّ من الساعة السادسة صباحاً حتى الحادية عشرة ظهراً، لتحصل على 50 ليرة تركية (2.1 دولار)، وتتم عملية القطاف كل يومين، مؤكدة أنّ العمال يوزعون العمل فيما بينهم.
ويتولّى عدد من النساء عملية القطاف وجمع الورود، بينما تقوم أخريات بتعبئة الإنتاج في الأكياس، ويقوم آخرون بحمل الأكياس وترتيبها في سيارات النقل، لطرحها في السوق المحلية، إذ تُباع على بسطات الخضار وفي بعض محال العطارة والأعشاب.
أغراض علاجية وغذائية
وتشتري سميرة الحلبي (35 عاماً) -وهي نازحة من مدينة حلب إلى ريف إدلب- الورد البلدي ذا اللون الزهري من السوق المحلية لصناعة المُربَّى والعصير، كما تفرز البتلات المتفتحة عن الأزرار الصغيرة، وتجفّفها تحت أشعة الشمس، ثم تخزّنها لفصل الشتاء كنوع من أنواع "الزهورات" لاستخدامها في حالات الزكام وغيرها.
وعن طريقة صناعة المُربَّى تقول سميرة، إن "مُربَّى الورد يُعدّ من الأطعمة الشهية، إلى جانب احتوائه على عديدٍ من الفوائد الطبية لغناه بفيتامين (c)، إذ نحتاج عادة إلى 3 كيلوغرامات من الورد لصنع كيلوغرام واحد من مُربَّى الورد، ونضيف للبتلات ليتراً واحداً من الماء مع كمية مناسبة من السكر، ونغليها جيداً لنحصل على المُربَّى، ثم نعبّئه في علب زجاجية للاستفادة منه على موائد الإفطار، وخاصةً في فصل الشتاء".
وتشير الشابة في حديثها لـTRT عربي إلى أنّها تصنع أيضاً من الورد مشروباً بارداً، يُشرب في الصيف معروفاً باسم "شراب الورد"، إذ تغلي الماء والسكر في وعاء، ثم تضيف إليه أوراق الورد المُنقى والمُنظف والمُجفف، وتتركه حتى يغلي جيداً إلى أن يحمرّ لونه، وبعد ذلك يُرفع عن النار ويترك ليبرد، ثم يُصفى ليُوضع في زجاجات.
جمال وزينة
ويُقبل كثير من النازحين على زراعة الورود في أماكن نزوحهم، بهدف الزينة وإضفاء الحياة والجمال على المخيمات الموحشة والبائسة، إذ لم تمنع ظروف الحرب والنزوح جمال العباس (45 عاماً) -النازح من مدينة سراقب إلى مخيم الكرامة على أطراف مدينة سرمدا الحدودية مع تركيا-، من زراعة الورود حول خيمته رغم الصعوبات وانشغاله بتدبير أمور حياته المعيشية مع أسرته المكونة من 7 أفراد.
وعن ذلك يقول العباس لـTRT عربي: "أردت الاستفادة من المساحة المهملة الموجودة حول خيمتي، من خلال زراعة الورود والأزهار التي نجد فيها المتنفس الوحيد لحياتنا التي بات يُخيّم عليها الحُزن والشقاء، باعتبارها تكسر جفاف المنطقة، وتبعث السرور والأمل في النفوس رغم سنوات الحرب الطويلة".
وفي موسمها، باتت رائحة الورد الجوري العطرة تفوح في حقول إدلب وأسواقها وبيوتها بعد تهجير آلاف المدنيين من محافظات عدة إليها، فهاجرت معهم زراعات جديدة وغير تقليدية، من أجل كسب لقمة العيش الكريمة، وتحدّي الظروف الاقتصادية والمعيشية المتردية.