وكان مدى تطوّر صناعة الغواصات في المنطقة، أحد أهم الفوارق في القوّة العسكرية بين الولايات المتحدة والصين على مدار العقود الأخيرة، لكن اليوم أضحت غواصات بكين تُظهر تطوراً وقوة على مستويات عدّة، من قبيل المرونة والسرعة وصعوبة العثور عليها.
وتُعدّ صعوبة اكتشافها، أو القدرة على الاختفاء، نقطة أساسيّة وحاسمة، في تطور القدرات الصينية، فغوّاصات بكين معروفة تاريخياً بأنّها صاخبة وسهلة الكشف والتعقّب، فيما تقف الغواصات الأمريكية على رأس هرم هذه القوّة عالمياً بمعيار صعوبة التتبّع.
غوّاصات الصين الجديدة
وفق المؤشرات التي تقدمها تحليلات العسكرية وأخبار مسرَّبة وأخرى معلنة، فإنّ الأعوام الأخيرة غيّرت نسبياً في المعادلة السابقة، وقلّصت الفوارق.
وهو ما يُنتظر أن يَظهر بشكل جليّ بعد انتهاء الصين من عمليات تطوير جيل غوّاصاتها النوويّة الجديد، الذي قد يغيّر ميزان القوى في منطقة متوتّرة، تكاد تكون فيها التحالفات والعداوات محسومة، وفي مقدّمتها المنافسة الصينية الأمريكية.
وقد تضطر الولايات المتحدة إلى إعادة تحليل موازين القوى في المنطقة، بعد تقارير عدّة عن الجيل الجديد من الغواصات الصينية.
القلق الأمريكي ليس مبنيّاً على ما يعرضه الإعلام الصيني أو العالمي، بخصوص تطوّر الصناعة العسكرية الصينيّة في مجال القوى البحريّة، فهذه التقارير عادةً ما تعامَل أمريكيّاً على أنّها مبالغٌ بها ولا تحمل مصداقيّة كبيرة.
لكنَّ ذلك القلق اليوم مبنيٌّ على مصادر بحثية عسكريّة أمريكية، تنبّه إلى القادم من أجيال جديدة تُطوَّر في المعامل الصينية، فقد نشر معهد الدراسات البحرية الصيني التابع لكلية الحرب البحرية الأمريكية تقريراً، شدّد على أنّ الأنواع الجديدة التي تنتجها الصين من الغواصات، ستكون لها آثار عميقة على أمن الولايات المتحدة بحراً.
ويقول التقرير إنّ الصين اقتربت من الانتهاء من غواصات تعمل بالطاقة النووية، ذات نظام متطوّر في الحفاظ على الهدوء، وتجنّب أجهزة الاستشعار، وهو نظام مشابه للنُّظم الروسيّة المحسّنة التي من المعروف أنّها صعبة الكشف والتعقّب.
ومن المتوقّع، حسب المصادر العسكرية الأمريكية، أنّ الغواصات الصينية الجديدة ستكون جاهزة بحلول عام 2030، ووفق محلّلي الأنظمة العسكرية البحريّة، ستكون الغواصّة الجديدة أكبر حجماً من أجيال الغواصات الصينية المعروفة السابقة مثل 093 و094.
كما ستكون لديها قابليّة حمل أحدث الصواريخ الباليستية الصينية، إضافةً إلى احتوائها على نظام دعامات مطاطية معقَّد، لتخفيف ضجيج مكوّنات الغواصة، ومنع التعقّب والاكتشاف.
أجهزة الاستشعار الصينية الجديدة
إلى جانب السعي الصيني الدؤوب لتطوير غواصّات متطوّرة، تسعى بكين إلى تطوير أجهزة استشعار، قادرة على كشف مواقع الغوّاصات الأمريكية الشهيرة بالقدرة الفائقة على الحركة بهدوء، والعصيّة على التتبّع، ومنها المعروفة باسم "غواصات الشبح".
ولعبت "الغواصات الشبح" بأجيالها المختلفة أدواراً عسكرية كبيرة تاريخياً، كانت الغلبة فيها لصالحها، والفضل بالدرجة الأساسية يعود إلى هدوئها.
وتقول وسائل إعلام صينية وعالمية، إنّ الصين توصّلت إلى حلّ لرصد هذه الغواصات، بالاعتماد على رصد فقاعات الماء التي تثيرها الغواصات في أثناء حركتها، وهو ما لم يؤكَّد ميدانياً، لكنّه قد يؤشر إلى تطور تقني آخر.
ولعلّ تطوير أجهزة استكشاف الغواصات وتقنيّاتها، لا يقل أهمية عن تطوير الغواصات نفسها، إذ إنّ التفوّق الأمريكي في مجال الأسطول البحري منبعه أيضاً القدرة الفائقة على رصد السفن والغوّاصات "المعادية".
ووفق الأبحاث العسكرية الأمريكية التي تناقش تطوّر القوات البحرية الصينية، يبدو أنّ هذا التطوّر، سواء في صناعة الغواصات أو تقنيات الرصد والتتبّع، بمثابة قضية مركزيّة يجب أن تبنى عليها الخطط العسكرية وميزانيّة التخطيط الدفاعي البحري الأمريكية.
ومنذ نهاية الحرب الباردة، كان تَحسُّن القدرات البحريّة الصينية يمثل التحدّي الأكبر الذي تواجهه الولايات المتحدة في مناطق المحيطين الهادئ والهندي.
وهو كذلك الشغل الشاغل للصين، على اعتبار أنّ القوّة العسكرية في المحيطات هي الأقدر على تشكيل الضغط السياسي، وتغيير التوازنات، وتحقيق مزيدٍ من النفوذ في المنطقة وعبر العالم.
الأسطول الصيني والأسطول الأمريكي
يبدو أنّ الصين متفوّقة بخصوص التوجّه نحو صناعة الغوّاصات ورفع عددها، إذ من المتوقّع أن يصل عدد غوّاصاتها عام 2030 إلى 76 غوّاصة، في الوقت الذي سيكون فيه عدد الغوّاصات الأمريكية 66 غوّاصة.
لكنَّ التفوّق الكمّي وحده غير كافٍ هنا، إنّما الأولوية للتطوّر التقني للغواصات وقدرتها على التخفّي والانتقال السلس في الأعماق من دون قيود.
وهو ما تسعى الصين جاهدةً لامتلاكه، ليتكامل مع بقيّة مكوّنات البحرية العسكرية الصينية، التي تُعدّ الأكبر في العالم، والتي ركّزت الصين على المسارعة في تطويرها منذ مطلع التسعينيات.
في المقابل، فإنّ الولايات المتحدّة تعمل بطريقة ما على توزيع الجهد بينها وبين حلفائها في مجال بناء الغوّاصات وتطويرها، والقصد هنا المملكة المتحدة وأستراليا على وجه الخصوص، إذ تصنع الولايات المتحدة الغواصات لدعم الدولتين الشريكتين لها، وتتبادل الخبرات والمعدّات معهما.
ويُعدّ هذا الحلف واحداً من أقوى الأحلاف في مجال الصناعات العسكرية، وقد انتقدته الصين وعدّته "خاطئاً وخطراً".
غوّاصات غيّرت مجرى الحرب
تدرك الصين الأهمية الكبرى لتطوير الغوّاصات العسكرية، ودور هذه الغواصات التاريخي في حسم حروب عدّة، من قبيل الحرب العالمية الثانية، التي حسم دخول الولايات المتحدة إليها ميزان القوى البحرية لصالح الحلفاء.
وكانت الغواصات الأمريكية صعبة الاستهداف والتتبع، وهو ما جعلها تدمّر حينها 1314 سفينة حربية من إجمالي سفن الأعداء الحربية، وهو ما يعادل 55 في المائة من أساطيلهم في المحيط الهادئ، كما فرضت تلك الغواصات إضافةً للأساطيل البحرية، خرائط النفوذ في المياه المتصارع عليها حينها.
ووعياً منها بهذا الدور، تتجه الصين نحو تطوير الغواصات، إذ عانت طويلاً بسبب سهولة اكتشاف غوّاصاتها، وأدركت أنّ صراعاتها في المحيطين الهادئ والهندي، بحاجة إلى غوّاصات متطوّرة يمكنها من خلالها فرض الشروط ورسم الخرائط في المياه من جديد.