تابعنا
بعد جهود حثيثة لعدة دول لإنقاذ هذا الفصيل النادر، أعلنت المملكة العربية السعودية مطلع أغسطس/آب الماضي إنجازاً فريداً بهذا الشأن، تمثّل في ولادة أول مجموعة من المها العربي منذ 100 عام، في براري نيوم.

كان حيوان المها العربي على وشك الاستسلام للفناء، والاختفاء من على وجه البسيطة، منذ أن دقّ الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة (IUCN) ناقوس الخطر بإعلان انقراضه من البريّة في سبعينيات القرن الماضي.

وبعد جهود حثيثة لعدة دول لإنقاذ هذا الفصيل النادر، أعلنت المملكة العربية السعودية مطلع أغسطس/آب الماضي إنجازاً فريداً بهذا الشأن، تمثّل في ولادة أول مجموعة من المها العربي منذ 100 عام، في براري نيوم، وهي أحد مشاريع صندوق الاستثمارات العامة، وتضم المحمية أحد أكبر برامج إعادة توطين الحياة الفطريّة والكائنات البريّة في العالم.

حيوان الصحارى العربية

وعلى مر العصور استوطن المها العربي صحارى وسهوب شبه الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين وسوريا وفلسطين ومصر، حيث يُظهر قدرة استثنائية على البقاء على قيد الحياة لفترات طويلة دون الحاجة إلى مصادر مياه مباشرة، كما أنّه قادر على السفر لمسافات طويلة بحثاً عن مناطق توفر نمواً جديداً.

ويعتمد هذا الحيوان بشكل أساسي على استهلاك الحشائش وجذور الأشجار ودرناتها وبراعمها وأوراقها مصدراً غذائياً، ولديه القدرة على التعرف على المناطق التي تساقطت الأمطار فيها والانتقال إليها بسرعة.

وكان بدو شبه الجزيرة العربية يصطادون هذا الظبي الأبيض اللّون، ما عدا وجهه، تقليدياً للحصول على لحمه وجلده، وكان يعيش دائماً حياة محفوفة بالمخاطر، ومع ذلك، تفاقمت التهديدات التي كانت تواجه هذا الظبي، المسمّى أيضاً "المهاة"، بسبب توفر الأسلحة والمركبات الآلية، وزيادة شعبية هواية الصيد.

وفي عام 1972قتلت آخر مهاة عربية في البرية على يد صياد محلي في سلطنة عمان، لكن لحسن الحظ وقبل الوصول لهذه النهاية المأساوية تأسس "القطيع العالمي للمها العربي" عام 1962 والذي يضم ثلاثة رؤوس من المها أُسرت في اليمن، وأربعة من مجموعات سعودية خاصة، ومهاة أخرى لأحد أفراد الأسرة الحاكمة في الكويت، وأخرى من حديقة حيوان لندن.

وبعد عام نقلت إلى حديقة "فونيكس" في ولاية أريزونا الأمريكية بسبب تشابه تضاريسها مع موطن المها الطبيعي، حيث حققت الحديقة نجاحاً هائلاً، بولادة أكثر من 200 مها بنجاح حتى عام 1982، وقدّمت بعض هذه الحيوانات لحدائق، ومشاريع إعادة توطين أخرى في الشرق الأوسط، وخلال تلك الفترة أرسلت رؤوس المها إلى البرية في السعودية والإمارات وفلسطين والأردن وسلطنة عمان.

أثبتت عملية التكاثر في الأسر نجاحها الكبير، إذ إنّه بحلول عام 1992 كانت 1600 من المها العربي موزّعة على نطاق واسع بين حدائق الحيوان في العالم والمجموعات الخاصة.

واعتباراً من عام 2011، أعادت القائمة الحمراء للأنواع المهددة بالانقراض الصادرة عن الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة تصنيف المها العربي على أنّه معرض للخطر. ويأتي ذلك بعد مرور 40 عاماً فقط على إعلان انقراض هذا النوع في البرية رسمياً، وهو ما يمثل إنجازاً في مجال الحفاظ على البيئة.

وبعد نجاح تجربة التكاثر في الأسر، أصبحت نهجاً في محميات شبه الجزيرة العربية الموطن الأصلي للمها، لنجدها الآن في محميتَي الشومري ووادي رم في الأردن، ومحمية عروق بني معارض ومحمية الأمير محمد بن سلمان الملكية ومحمية الملك سلمان بن عبد العزيز الملكية في السعودية، ومحميات الشحانية والمسحبية وراس بروق وسيلين في قطر، ومحمية المها العربية في سلطنة عمان، ومحميات أم الزمول والحبارى ودبي الصحراوية في الإمارات.

وفي 5 أغسطس/آب الماضي أعلنت هيئة البيئة في أبو ظبي، أنّ الإمارات تضم أكبر عدد من المها العربي المعاد توطينها بإجمالي 1595 رأساً، وشمل المسح 2632 من المها العربي في أربع دول مشاركة، هي الإمارات والسعودية وسلطنة عمان والأردن، وذلك من خلال تنفيذ 7 برامج إعادة توطين مستهدفة.

فيما جاءت المملكة العربية السعودية في المرتبة الثانية وذلك مقابل 799 رأساً، وفي سلطنة عمان بلغ عدد المها العربي 143 رأساً، وجاءت الأردن في المرتبة الرابعة بواقع 95 رأساً.

أسباب "انقراض" المها المؤقت

يروي الرحالة والكاتب البريطاني ويلفريد ثيسيغر، الذي اشتهر بعشقه لشبه الجزيرة العربية، في كتاب رحلاته ومغامراته الصادر عام 1948، بعنوان: "عبر صحراء الربع الخالي" Across the Empty Quarter ، كيف أنّ الثراء الذي كان متاحاً في شبه الجزيرة العربية في ذلك الزمن سمح لعدد متزايد من الصيادين باستخدام مركبات آلية لمطاردة حيوانات المها.

وقد فتحت لهم هذه المركبات طرقاً جديدة للوصول إلى مناطق كان من الصعب الوصول إليها سابقاً، حتى عام 1972 عندما رصدت آخر مجموعة من المها العربي في البرية وتسجيلها باعتبارها في سلطنة عمان، ثم جرى قتلها بعد ذلك بفترة قصيرة.

وإلى جانب الصيد الجائر، كان الرعي الجائر للماشية أيضاً في البيئات الصحراوية الطبيعية من جهة وفقدان بعض تلك الأنظمة البيئية تماماً أو حتى انحسارها أيضاً، بسبب انتشار العمران والأنشطة التنموية وجهود البحث عن النفط، مما أسفر عن انخفاض حاد في عدد المها.

وهنا نستذكر كيف أنّ اليونسكو أزالت في 28 يونيو/حزيران 2007، موقع محمية المها العربي في سلطنة عُمان من قائمة اليونسكو للتراث العالمي، واستشهدت المنظمة بقرار الحكومة العُمانية بفتح 90٪ من الموقع للتنقيب عن النفط باعتباره السبب الرئيسي لهذا القرار.

وانخفض عدد المها العربي في الموقع من 450 مها في عام 1996 إلى 65 فقط في عام 2007، ويرجع ذلك في الغالب إلى الصيد الجائر والأسر غير القانوني للحيوانات البرية.

كما أنّ احتفاظ البعض بالمها ضمن مجموعاتهم الخاصة، كان أحد العوامل الأقل إسهاماً في أفولها، غير أنّه كان أيضاً طوق نجاة عقب استخدامها في برامج الإكثار.

بالإضافة إلى ذلك، يعتبر القتال بين الذكور ولسعات الأفاعي والأمراض والأوبئة والغرق نتيجة للفيضانات وسوء التغذية والجفاف الشديد وتغير المناخ السريع من بين العوامل الأخرى التي أسهمت في نفوق هذه الحيوانات.

"المها" أيقونة الثقافة العربية

كان الشعراء العرب ومازالوا عندما يصفون محبوباتهم، يشبهونهن بـ"المها العربي" رفيق حله وترحاله، إذ تتقاطع المحبوبة والمها في صفات الجمال والرشاقة وسحر العيون، فكانت المها تمثّل جزءاً لا يتجزأ من بيئتهم، وكانت ترافقهم في رحلاتهم عبر الصحاري القاحلة التي تميّز جزيرة العرب.

وكانت عيون المها صاحبة النصيب الأوفر من الغزل في العصور القديمة، ذكرها ابن المقري أحد شعراء العصر المملوكي واصفاً إيّاها بأنّها تملك سحراً قاتلاً وآسراً بسحر جمالها، وتفعل ما لا يفعله السيف والرمح قائلاً:

عيون مها يجلو ظبا لحظها السحرُ

فتفعل ما لا تفعل البيض والسُمرُ

إذا جردتها فاستعدوا من الهوى

لمعترك يفشو به القتل والأسر

أما شاعر العصر العباسي علي بن الجهم، فوصف عيون المها التي مرت بجواره على شط نهر دجلة بأنّها أثارت شوقه القديم وذكرته بهوىً كان نساه وأنشد أبياته الشهيرة: عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ

جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري

أَعَدنَ لِيَ الشَوقَ القَديمَ وَلَم أَكُن

سَلَوتُ وَلكِن زِدنَ جَمراً عَلى جَمرِ

وفي العصر الحديث اعتمد كثير من المؤسسات والشركات على استخدام اسم المها وصورته شعاراً لها باعتبارها رمزاً عربياً معبرّاً عن الأصالة، ففي عام 2006 كشفت الخطوط القطرية عن المظهر الخارجي الجديد لطائراتها، ويُظهر التصميم من الخارج شعار "المها العربي" باللون العنابي ممتداً على طول ذيل الطائرة والجزء الخلفي من جسمها بشكل أكبر وأوضح وأقوى من التصميم القديم.

كما تحمل الطائرات التابعة لـ"القطرية" شعار حيوان "المها العربي" على الجزء السفلي من جسم الطائرة، مما يسمح برؤيته في أثناء التحليق المنخفض عند الإقلاع والهبوط، كما وُضع شعار "المها العربي" على الجناحين والمحركات.

ومع مرور الوقت لا يزال خطر الأفول والانقراض للمها العربي قائماً، إذ يتعرض لاستمرار صيده غير القانوني وتأثيرات عدة عوامل خارجية، وعلى الرغم من المشكلات التي لا تزال تقوّض تعافيه، تظل عودة المها العربي إلى الحياة في وسطه الطبيعي واحدة من قصص النجاح الأكثر ديمومة في مجال الحفاظ على البيئة.

TRT عربي
الأكثر تداولاً