لم تسلم ثروة المغرب التراثية من فاجعة زلزال "الحوز"، بعدما تضررت المباني التاريخية والتراثية في مدينة مراكش، وفي أحوازها التي كانت مركز الزلزال العنيف الذي بلغ قوته 7 درجات على مقياس ريختر، ولم تشهد البلاد مثله منذ قرن تقريباً.
وعمّق تصدع مبانٍ وأسوار ومساجد تراثية وتاريخية، ألم المغاربة وحزنهم على العدد الكبير من الضحايا والجرحى الذي سقط جراء هذه الكارثة الطبيعية.
ويندرج بعض هذه المآثر التاريخية، المتمركزة أساسا داخل مدينة مراكش وفي جبال الأطلس الكبير بمنطقة الحوز، ضمن التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم، فيما سُجّلت أخرى ضمن قائمة التراث الوطني.
أضرار بمآثر عمّرت لقرون
وأكد المسؤول عن البنايات التاريخية والتراثية بمديرية الثقافة لجهة مراكش، جمال أبو الهدى، في معرض حديثه مع TRT عربي أن زلزال مساء الجمعة 8 سبتمبر/أيلول الجاري، "خلف أضراراً كبيرة بالتراث والمآثر التاريخية التي تتميز بها المنطقة، والتي عمّرت لعدة قرون وشهدت على تعاقب دول عديدة في المغرب، وهي الآن مغلقة لا يمكن الاقتراب منها البتة".
لهذا، "نحن الآن في مرحلة تقييم حالة هذه المآثر في المنطقة، سواء في مراكش أو في جبال الحوز التي كانت قريبة جداً من مركز الهزة الأرضية التي لم تشهد بلادنا مثلها منذ 120 سنة".
وضعية صعبة واليونسكو تتدخل
وشدد أبو الهدى على أن "الوضعية صعبة جدا، بل بدأت تقلق أكثر، خصوصاً أن الأضرار تزايدت عما كان عليه الأمر يوم السبت الماضي مباشرة بعد الكارثة الطبيعية".
وأوضح المسؤول عن المباني التاريخية والتراثية بمراكش، أنه "إلى حدود اللحظة لم يُتوصل إلى إحصاء دقيق لعدد البنايات المُتضرّرة، في انتظار زيارة سيعكف عليها مجموعة من الخبراء بوزارة الثقافة بمعية خبراء اليونسكو".
في هذا السياق، ذكرت المديرة العامة لليونسكو، أودري أزولاي، في تغريدة على موقع إكس، أن "بعثة من اليونسكو زارت السبت الماضي مدينة مراكش"، مؤكدة "دعم المنظمة للسلطات المغربية في حصر الأضرار وجعل المباني آمنة والاستعداد لإعادة إعمارها".
تصدّعات في جامع الكتبية
غير أن مدينة مراكش تُعرف أكثر، إلى جانب ساحة الفنا، من خلال مسجد الكُتبية الذي عرف "تصدّعات بالجدار الموجود بجانب المحراب، والأضرار التي أصابت السور الخارجي المحيط بالجامع"، على حد قول جمال أبو الهدى، المسؤول عن المباني التاريخية بمراكش.
وذكر أبو الهدى لـTRT عربي، أنه "في المستقبل القريب سنعمل على ترميم هذه البنايات التاريخية بكل تأكيد، والتي تعد من أقدم المساجد في الغرب الإسلامي، إذ أُسّس في منتصف القرن الثاني عشر، تحديداً عام 1147 في عهد الدولة المُوَحدية".
مَعلم بلغت سمعته الآفاق
سمعة هذا الجامع بلغت آفاق العصور الوسطى متوغلة في أعماق غرب إفريقيا، فيما ذاع صيته في العصور الحديثة أثراً فنياً بالغ الجمال، ويكاد يكون مدرسة للفن الجميل أو متحفاً للابتكار المعماري، جمع كثيراً من التصاميم الفريدة في ميادين البناء والزخرفة.
وكان هذا المَعلم التاريخي في مدينة مراكش، التي سُميت الكتبية نسبة إلى باعة الكتب الذين كانوا يروّجون بضاعتهم بجانب الجامع في عهد مضى، شهد في السنوات القليلة الماضية مشروع ترميم وتهيئة للمنطقة المحيطة به، مع بعض التطويرات لخزانة مسجد الكتبية من خلال إنشاء مركز للشرح، سيمكّن الزوار الأجانب بالخصوص من التعرّف من كثب على الكتبية والدولة المُوحّدية.
خسارة جسيمة في أجزاء تينمل
وأكد مصدر رسمي من وزارة الثقافة لـTRT عربي، أنه سيجري إعداد برنامج مستعجل يشمل جميع المباني والآثار التاريخية في مقدمتها مسجد تينمل التاريخي، بإقليم الحوز، والذي تعرض جزء منه للضرر جراء هذه الكارثة الطبيعية.
وفي القرية التي شُيّد بها مسجد تينمل، والتي تنتمي لتجمع سكاني يدعى "ثلاث نيعقوب" بقمم جبال الأطلس الكبير (جنوب مراكش)، عاينت TRT عربي صباح الأحد 10 سبتمبر/أيلول الجاري، دماراً شاملاً لحق بمسجد تينمل التاريخي بفعل الهزة العنيفة التي ضرب المغرب مساء الجمعة الماضي.
والمسجد الذي شُيد في عام 1148، كان يشمله مشروع ترميم بدأ منذ سبتمبر/أيلول 2022، وكان من المتوقع أن تستمر أعمال الترميم لمدة 18 شهراً، في خطوة لردّ الاعتبار للموروث المعماري الديني الذي يعكس جوانب من الحضارة المغربية.
تقول محافظة موقعي أغمات وتينمل الأثريين، نادية البورقادي: "الخسارة جسيمة في أجزاء تينمل، وهو الآن مغلق في انتظار الانتقال إلى الموقع لمعاينة الوضع، وتقييم الخسائر بشكل دقيق".
وحول الخطوة المقبلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المسجد الذي صمد لنحو 9 قرون، "أعتقد أن المسجد سيرمَّم من جديد، وأن السلطات المختصة ستفعل ما في وسعها لإنقاذ ما تبقى من المسجد، وإعادة بنائه على الحال التي كان عليها قبل الكارثة"، وفق تعبير البورقادي في تصريحها لـTRT عربي.
ويعد مسجد تينمل الأعظم، أكثر المباني التاريخية تضرراً من الزلزال لكونه بني على ارتفاع 1230 متراً من سطح البحر وسط جبال الأطلس الكبير، ويعكس حضارة الدولة المُوحّدية والأدوار التي لعبتها تاريخياً، لاسيما في غرب إفريقيا والأندلس.
تينمل مهدُ حركة المُوحّدين
يسجل الخبير في علم الآثار والأستاذ بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة، عبد الله فيلي، أن "تينمل، كما هو معلوم، هي المحطة الثانية لانطلاق الحركة المُوَحّدية بعد إيجيليز هرغة الموجودة بمنطقة سوس قرب تارودانت (جنوب المغرب)".
وأوضح فيلي في حديثه لـTRTعربي، أن "مسجد تينمل والمدينة آنذاك، أضيف عليهما صفة القداسة، إذ كانت تُشدّ إليها الرحال من الخلفاء المتعاقبين على الدولة المُوَحّدِية، لأنه في المنظور السياسي المُوَحّدي، كانت منطقة تينمل منطلقاً ومهداً لحركتهم".
لهذا حاولت الدولة المُوحّدية أن تعزز مكانة المسجد من خلال الأبعاد البنائية على صعيد الزخرفة الفريدة التي بات يتمتع بها، أو من خلال مكانته السياسية والرمزية.
الترميم بشكل عاجل
ويهتم المتخصصون بشكل كبير بتسريع ترميم كل هذه المآثر التاريخية التي أضرّ بها الزلزال، باعتبارها تراثاً ثقافياً للمملكة وانعكاساً لوجهها الحضاري.
ويرى أستاذ التاريخ والآثار بتازة، منير أقصبي، أنه من الضروري "الاستعجال بمباشرة عمليات تدعيم لأسوار جامع تينمل والأجزاء المتضررة من أسوار مراكش وتارودانت لتفادي مسلسل التدهور والانهيارات".
وأفاد أقصبي لـTRT عربي، بأنه يجب "إجراء معاينة فنية على المباني التاريخية في المدينة العتيقة لمراكش ومثيلاتها بتارودانت، للوقوف على حالتها، تفادياً لانهيارات على المدى القريب بعدما تعرضت لرجّات عنيفة، خصوصاً الصوامع".
كما دعا إلى "تدخل فريق من المتخصصين: أثريّين ومهندسين ومكاتب دراسات، لإجراء دراسة حول حالة المحافظة وتقييم الخسائر مع وضع التوصيات اللازم لإعادة الإعمار".
وأبرز المتخصص في الآثار، أن "الترميم وإعادة البناء يجب أن يكونا وفق الشكل الأصلي، واستعمال تقنيات ومواد بناء تقليدية. وإذا استدعى الأمر، يُجرى تدعيم إضافي لمقاومة الزلازل فهذا أمر مطلوب".