تابعنا
لا شكّ أن اتجاه الكثير من الشباب المصري إلى تصوير مقاطع الفيديو القصيرة عبر سيناريو معيّن أو حتى على تيك توك كان من أثر اندماج التكنولوجيا في حيواتنا الواقعية، بل وتوفيره فرصةً من خلالها للصعود إلى الشهرة والعمل وكسب المال.

عندما تنتقل إلى مقاطع الفيديو في فيس بوك "watch" ومع استمراريّة تقلّب تلك المقاطع أمامك، ستجد عدة مقاطع وهي أفلامٌ قصيرة كما يسمّيها أصحابها تحكي سيناريوهات يوميّة تحدث بين الأصدقاء والعائلات. من الملاحظ في تلك المقاطع أنّها تصوّر في الريف المصري، تلك المُلاحظة تأتي من لهجة المتحدّثين الريفية والشوارع التي تمتلئ بالأراضي الزراعية وعدد من المباني الجديدة التي تُبنى على الأراضي الزراعيّة المُبوّرة.فمن يرعى تلك المقاطع؟ وكيف ولماذا انتشرت؟ وما أثرها على التحوّلات القيميّة لأهل الريف المصري؟

مَن هم؟

هم مجموعة من الشباب العشرينيّ، يعيشون في ريف مراكز المحافظات المصرية، أشهرهم خالد السيد المعروف باسم "ماندو موهبة". تكمن شهرة ماندو عندما تصدّر حديث صفحات الكوميكس والميمز المصريّة عندما كان يقول لإحدى معجباته إنّها "تحرم عليه" حتى وإن كانت أُمّاً لأحد أصدقائه. انتشر هذا الفيديو سريعاً وأصبح مادة للسخرية، بعدها قد أجرى موقع إعلام دوت كوم مقابلةً مع ماندو ليتعرّفوه عن قرب. لكن في ظل ماندو وجِدت الكثير من الصفحات والقنوات التي تقدّم المحتوى ذاته الذي يقدّمه ماندو.

يشاهد تلك الأفلام القصيرة مئات الآلاف بعيداً عن سخرية البعض. فقناة ماندو موهبة ابن قرية "المسلة" بالفيوم على يوتيوب بها 165 ألف مشترك، وتحوي مشاهداتها إجمالاً 44 مليون مشاهدة، قناة أُخرى باسم "عبده توسو" بها 141 ألف مشترك، وعدد مشاهدات يصل إلى 28 مليوناً، وثالثة باسم "فودة ورامي توينز" بها 157 ألف مشترك، و45 مليون مشاهدة، وغيرها باسم "مصطفى زياد" و"عادل أحمد" و"محمود الجمل"، تشترك جميعها في بث فيديوهات تحوي قصصاً بهدف الوعظ الأخلاقيّ تحصد ملايين المشاهدات على يوتيوب وفيسبوك.

بعد جولةٍ كافية في تلك المقاطع المصوّرة، تجد أن القصص جميعها متشابهة، بل تعتمد على سيناريوهيّن أساسيين، الأول هو العلاقات غير الشرعيّة بين الشباب الذكور والإناث، مثل الصديق الذي يخون صديقه مع أُخته، والزوجة التي تخون زوجها الكفيف/العاجز/المُسنّ، أيّ الخيانة أو العلاقة غير الشرعية بين ذكرٍ وأنثى.

الثاني هو خيانة الأصدقاء بعضهم لبعض، أو الأخ لإخوته، أو عقوق الوالدين طمعاً في المال. على الرغم من بداهة تلك القصص، فإنها تأخذنا إلى أعماق الواقع الريفي، وما يشغل أذهان شبابه من قضايا، بل وتجسيدها يجعلنا نشتبك مع أثر التكنولوجيا على تحوّلات القيم الريفية المتعارف عليها بالمحافظة مقارنةً بالحضر المصريّ.

كيف ولماذا تلك الفيديوهات؟

لا شكّ أن اتجاه الكثير من الشباب المصري إلى تصوير مقاطع الفيديو القصيرة عبر سيناريو معيّن أو حتى على تيك توك كان من أثر اندماج التكنولوجيا في حيواتنا الواقعية، بل وتوفيره فرصةً من خلالها للصعود إلى الشهرة والعمل وكسب المال. قد أصبح هؤلاء الشباب بامتلاكهم مئات الآلاف من المتابعين والمشاهدات أكثر شهرةً على الأقل في مُحيطهم المعرفيّ ودوائر السوشيال ميديا، يربحون مبالغ ليست هيّنة مقابل إعلانات الشركة التي تُعرض على قنوات وصفحات اليوتيوب وفيسبوك التابعة لهم، وذلك لانتقال الوظيفة في زمننا الحالي من يد الدولة إلى أيادي السوق الحرّ والشركات الخاصة، وأمست الدولة في دور الحارس الليليّ تُراقب المدينة أخلاقياً وأمنيّاً من بعيد كما يصفها الفيلسوف الكندي آلان دونو في كتابه نظام التفاهة.

يقول خالد السيد "ماندو" إنّه يعشق السينما، وإنّه فشل في الدخول إلى مجتمعات السينما أو المسرح في مصر. كان يذهب للتقديم ولا يتصلون به بعدها، فحاول أن يقدّم شيئاً عن طريق السوشيال ميديا، وبدأ عن طريق الربح يطوّر من معدّات الإنتاج حتى يخرج للجمهور أفضل جودة للفيلم القصير كما يسمّيه، لكنّ من وجهة نظر فنّية ما يقدّمه ماندو وأخواته ليس شيئاً مُهماً أو ذا قيمة ورسالة فنّية، وجميع القصص تُكرر نفسها أو مقتبسة من سيناريوهات السينما والتلفزيون أو سيناريوهات رديئة تُضحك أكثر من يستمع إليها. فمن السهل جداً عندما تجري حواراً مع أيٍّ من مُؤدّي تلك المقاطع أن يقول لكَ إنّه عاشق للسينما ولم يجد غير السوشيال ميديا للتعبير عن موهبته الفنّية.

ليس مستحيلاً أن يتحوّل بطل مقطع الفيديو إلى ممثل سينمائيّ، فالسينما حالياً تبحث عن الوجوه التي تعتبر محل جدلٍ وحضور على السوشيال ميديا بغضّ النظر عن الموهبة والأداء الفنّي، كما حدث مع "دينا مراجيح" وهى فتاة تصوّر مقاطع تيك توك ولها شهرة عند روّاد التواصل الاجتماعي، لتقفز بعد ذلك إلى أحد الأدوار الثانويّة في الأفلام السينمائيّة، ولكن الأمر في الحقيقة هو فقدان بوصلة المستقبل لهؤلاء الشباب، فالحياة العملية وسوق العمل لا يتناسبان مع مؤهلاتهم التعليمية أو الحرفيّة في ظل تشكّلات الاقتصاد وسوق العمل الحاليّ في مصر. فكانت المنصات فرصة عمل ووسيلة ربحٍ تعلّقوا بها بدلاً من البحث عن العمل والمستقبل الكريم. وهذا هو الانتقال من الحرفة إلى المهنة، فالمطرب قديماً أصبح الآن مؤدّياً.

تحوّلات القيم في الريف المصري

كما ذكرنا تُجسّد القصص الخيانة الزوجية ومصاحبة الشباب والرجال للبنات دون عقدٍ رسميّ، تلك الأفكار رغم بديهيّتها من مشاكل وجِدت في المجتمع المصري منذ قرون مَضت، وشغلت أفلاماً سينمائية كثيرة، سواء قديمة أو حديثة، مثل فيلم المذنبون والمرأة التي غلبت الشيطان والشريدة وسهر الليالي وخيانة مشروعة وأوقات فراغ والماجيك وغيرهم، فإنّها تشغل وبقوّة أحاديث وحكايات الريف المصري. فكلّ قصة هي بالتأكيد واقعية في مِخيال مُؤلفها، فالصديق الذي يُواعد أخت صديقه والزوجة التي تخون زوجها بسبب عجزه أو كِبر سنّه، تلك حكايات شعبية تدور في كل أماسي الأصدقاء والعائلات، بالتأكيد ليس في الريف المصريّ فقط، لكنّها تشغل مساحةً أخلاقية في الريف أكثر من الحضر، لسطو وحضور الحكايات بشكلٍ أكبر ومعرفة السكان بعضهم ببعض كما هو متعارف عليّه بطريقة تختلف عن الحضر الذي قليلاً ما تجد فيه صلاتٍ حميميّة ومعرفية بين أبناء الشارع والحيّ الواحد.

بالعودة إلى القيم الريفية، فمن المعروف أنّ لباس المرأة في الريف أكثر حشمةً من الحضر، وربما جسد المرأة بأكمله يُمثّل تابوهاً للمجتمع الريفي يتعامل معه كنوعٍ من المسؤولية يجب على العائلة تسليمه إلى بيت الزوجيّة للحفاظ على مكانته الشرفيّة داخل المجتمع. اتخذ جسد المرأة في تلك الأفلام القصيرة محوراً هاماً يرتكز عليه الفيلم من الأساس، فالقصّة التي تجسّد خيانة زوجيّة يجب عليها أن توفّر جسداً مثيراً تدور من حوله الإثارة والسعي إلى الخيانة.

تلك الفتيات المغمورات وهنّ بنات القرى يظهرن بلباسٍ يُعري أجسادهن، تنورات قصيرة، فساتين نومٍ، مع الموسيقى والرقص، بهدف الإثارة وربما الواقعيّة، فتلك الأفلام تُمثّل داخل البيوت، وتكون الزوجة أمام زوجها، لكن واقعياً هو ليس زوجها، فلم تظهر من قبل تلك المشاهد إلّا في الأفلام السينمائيّة التي تَخرج للمشاهد في دور السينما أو شاشات التلفزيون في إنتاج فنّي معترف به من الدولة والمجتمع. أما أن يرقص ويتعرى الجسد داخل أحد البيوت الريفيّة أمام الغرباء بهدف عرضه على منصّات التواصل، ويشاهده الملايين من خلال شاشات الهواتف، فهذا هو التحول القيميّ الطارئ على المجتمع المصري. التحوّل في النظرة الجديدة لذواتنا وأجسادنا وطبيعة ظهورها في ظلّ عولمة التكنولوجية واقتحامها لكلّ الأعراف المجتمعية في مصر. لِتكون أجسادنا وسيلةً ضرورية للوصول إلى يوتوبيا العصر الحديث، يوتوبيا تخضع وتسعى إلى إرضاء آليات سوق العرض والطلب كما يسمّيها الاجتماعي البولنديّ الراحل زيجمونت باومان.

تأخذ صفحات الساركازم والكوميكس Sarcasm Pages المصريّة مقاطع تلك الأفلام القصيرة بعد أن يبثّها ماندو وأخواته على يوتيوب وفيسبوك، ومن ثَمَّ يقومون بالسخرية منها، من القصص والحوارات الدائرة بين المؤدّين وحتى من خِلّقة الأشخاص وهيئتهم الجسدية وارتجالاتهم ولهجتهم الكلاميّة في أثناء التمثيل، ويشاهدها أيضاً مئات الآلاف ويتساءلون ما الذي يحدث في الريف المصري؟ وماذا فعل الإنترنت بالمصريين؟ ومن هؤلاء؟ ويستنكرون القصص والسرديات الدائرة في تلك المقاطع. عندما سُئل ماندو عن السخرية منه قال: إنّه "بالرغم من ذلك سعيد، لأن الناس بدأت تعرفه".

ليس هذا هو التقييم الوحيد بالطبع. فتلك الأفلام تلقى إعجاباً كبيراً لوحظ في كمّ المشاهدات الهائل على قنواتهم وصفحاتهم في يوتيوب وفيسبوك، فهناك اجتماعات مصريّة ترى في تلك القصص عظةً ونصيحةً أخلاقيّة يجب سماعها والعمل بها. بالإضافة إلى أن جزءاً كبيراً من المشاهدات يأتي من باب الإقبال الكبير للشباب على التسلية والمشاهدة في أوقات فراغهم الكثيرة بغض النظر عن الإعجاب أو السخرية، وهذا ما يوصفه أستاذ الاجتماع الفرنسي جيل ليبوفيتسكي باستراتيجيّة الفراغ، أي أنّ القيمة الحقيقيّة للوقت/حياة الإنسان للتوجّه إلى فعلٍ ما تائهة، نتيجةً لفراغٍ ليس زمنياً فقط، بل نتيجة لفراغٍ جوّانيّ داخل العقل والذات الإنسانيّة.

استطاعت التكنولوجيا بمميّزاتها المتمثلة في كسب الشهرة والمال أن تطغى على حياة المصريين، ليس سكان الحضر فقط الذين لا يتمنّعون بشكلٍ كبير عن إظهار حياتهم للناس، بل أيضاً الاجتماعات الريفية المُحافظة التي عبّرت مؤخراً عن مشاكلها وأفكارها وحكاياتها وأصبحت حياتها شبّه عاريّة. فتجد الأمّ العجوز تشترك في صناعة تلك الأفلام القصيرة، وأُخرى على موعدٍ مع عرض التحدّيات والطبخات، والرجل الشيخ على موعد مع نكتة ترفيهيّة وغير ذلك من حيواتٍ وأشياء أصبحت أساسية في يوميّات من يمتلكون الهواتف الذكيّة.

TRT عربي
الأكثر تداولاً