رداً على "النهج الأمريكي".. ماذا يعني تشكيل جيش أوروبي مشترك؟
بعد نحو 6 عقود من صدور أول مقترح لتشكيله، اكتسبت فكرة إنشاء "الجيش الأوروبي" زخماً غير مسبوق عقب مشاهد الفوضى التي تخللت الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وسيطرة طالبان على السلطة في كابل. فهل تنجح أوروبا أخيراً في تحقيق استقلال عسكري عن حليفتها واشنطن؟
ماذا يعني تشكيل جيش أوروبي مشترك؟ (European Defence Agency)

أظهر "الدرس الأفغاني" تباعد المصالح الأمريكية عن حلفائها الأوروبيين، والتي تجلّت في تصرّف واشنطن الأحادي دون تنسيق يُذكر مع قادة أوروبا خلال عملية سحب القوات الأجنبية من أفغانستان.

وبعد نحو 6 عقود من صدور أول مقترح لتشكيله، اكتسبت فكرة إنشاء "الجيش الأوروبي" زخماً غير مسبوق عقب النهج الأمريكي خلال عملية الانسحاب من أفغانستان، والذي تخلّله مشاهد الفوضى إبان سيطرة طالبان على السلطة في كابل.

مقترح من قِدَم الاتحاد الأوروبي

يعود تاريخ مشروع إنشاء جيش أوروبي مشترك إلى وقت تأسيس الاتحاد الأوروبي ذاته، حيث نوقشت فكرة إنشائه للمرة الأولى عام 1950، أي بعد عام واحد من تأسيس حلف شمال الأطلسي "الناتو"، حين اقترحته فرنسا جيشاً مؤلفاً من الدول "الست الداخلية"، وهي بلجيكا وفرنسا وإيطاليا ولوكسمبورغ وهولندا وألمانيا الغربية.

وكان الهدف المُعلن وقتها هو تعزيز الدفاع الأوروبي المشترك ضد التهديد السوفييتي المتزايد حينئذ، وذلك دون إعادة تسليح ألمانيا، التي اتُّخِذ بحقها قيود عسكرية احترازية في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

ووقّعِت معاهدة مؤسّسة لـ"مجموعة الدفاع الأوروبية" عام 1952، لكن في نهاية المطاف لم تر المجموعة النور حيث لم تُصدَّق المعاهدة من قبل الموقّعين.

وخلال ما يزيد عن 4 عقود من الحرب الباردة، لعب حلف "الناتو" دوراً مركزياً لتأمين القارة العجوز، ما انعكس سلباً على مساعي تأسيس كيان للتعاون العسكري الأوروبي.

وبعد سقوط المعسكر الشرقي بقيادة السوفييت، انهمك الأوروبيون في توسيع نطاق وتطوير "الناتو" ليشمل دولاً وليدة عقب سقوط الكتلة السوفيتية.

وإثر هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 بالولايات المتحدة، عادت الأصوات مجدداً تطالب بإنشاء قوة عسكرية أوروبية موحَّدة، لا سيما بعد انشغال حلف "الناتو" بصراعات خارج القارة الأوروبية.

وجاء المقترح في سياق ما أُطلق عليه أوروبياً مصطلح "تنويع الأمن الأوروبي"، والذي بموجبه اتجه "الناتو" إلى مجابهة التهديدات الأكثر خطورة، والتي شملت العمليات العسكرية الخارجية وقوات مواجهة الإرهاب. فيما وقع تركيز الاتحاد الأوروبي على التهديدات "الناعمة"، وهو ما يشمل قوات حفظ السلام في دول البلقان عقب انهيار الاتحاد اليوغوسلافي.

ولم تشهد الفكرة تطوراً على الأرض إلا بحلول عام 2019، حيث قررت ألمانيا وهولندا تنشيط كتيبة دبابات 414، لتصبح بذلك الكتيبة الأولى في تاريخ الاتحاد الأوروبي التي تضم جنوداً من دولتين أوروبيتين مختلفتين، وابتغى الهولنديون والألمان حينئذ خلق تكامل فيما بينهم، إذ افتقرت هولندا إلى قدرات عسكرية عالية في الدبابات، فيما عانت ألمانيا نقصاً في عدد الجنود، واعتبر بعض المحللين الأمر بمثابة نواة لتأسيس جيش أوروبي.

ما الذي طرأ عقب "العبرة الأفغانية"؟

بعد نحو 6 عقود من صدور أول مقترح لتشكيله، اكتسبت فكرة إنشاء "الجيش الأوروبي" زخماً غير مسبوق عقب مشاهد الفوضى التي تخللت الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وسيطرة طالبان على السلطة في كابل.

وحسب متابعين، أبرز "الدرس الأفغاني" تباعد المصالح الأمريكية عن حلفائها الأوروبيين، والتي تجلّت في تصرّف واشنطن الأحادي دون تنسيق يُذكر مع قادة أوروبا خلال عملية سحب القوات الأجنبية من أفغانستان.

واعتمد حلفاء واشنطن في "الناتو" على الدعم اللوجيستي والجوي الأمريكي لمشاركتهم العسكرية في أفغانستان، كما في عمليات الإجلاء الآمن لمواطنيهم، وهو ما شكّل "خيبة أمل" أوروبية لفشل إدارة الولايات المتحدة مشهد الانسحاب.

وتكثّفت الدعوات الأوروبية الأيام الماضية مطالبةً بتطوير الدول الأعضاء الـ27 قدرتها العسكرية المشتركة الخاصة، للرد سريعاً على الأزمات التي تفاقمت عقب الفوضى في أفغانستان.

وفي هذا الصدد، صرّح وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل: "أظهرت أفغانستان أن هناك ثمناً لأوجه القصور على صعيد استقلالنا الاستراتيجي، والسبيل الوحيد للمضي قدماً هو توحيد قواتنا وتعزيز، ليس فقط قدرتنا، ولكن أيضاً إرادتنا للتحرك".

وتابع بوريل: "إذا أردنا أن نكون قادرين على التصرّف على نحو مستقل، وألا نعتمد على الخيارات التي يتخذها الآخرون، حتى لو كان هؤلاء الآخرون هم أصدقاؤنا وحلفاؤنا، فعلينا إذن أن نطوّر قدراتنا الخاصة".

وينبع انزعاج أغلب القادة الأوروبيين من النهج الذي سلكته واشنطن أثناء عملية الانسحاب من أفغانستان، والتي تخللها تهميش للدور الأوروبي متمثلاً في حلف "الناتو"، الذي تلعب دول الاتحاد الأوروبي دوراً مركزياً به وتشكّل جزءاً كبيراً من قوامه، والذي اعتمدت عليه الولايات المتحدة كذلك خلال أغلب عملياتها العسكرية الخارجية.

الجيش الأوروبي بين الواقع والخيال

على مدار الأعوام الماضية، تطرّق العديد من الزعماء الأوروبيين مثل المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مراراً لبحث فكرة تدشين جيش أوروبي أو قوات تدخل سريع كالتي اقترحها وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل مؤخراً، غير أن مراقبين يرون أن العوامل المصاحبة للإرث الطويل من فشل تنفيذ الفكرة قد تحول دون تحققها مجدداً.

وبدا سابقاً أن إنشاء جيش أوروبي مشترك بات وشيكاً عند محطات تاريخيّة عدة، بدءاً من انهيار الاتحاد السوفييتي، مروراً بهجمات سبتمبر/أيلول 2001، وصولاً إلى مغادرة بريطانيا الاتحاد "بريكسيت"، والتي كانت بدورها تعارض المقترح تخوفاً من تقويضه سلطة وصلاحية حلف "الناتو".

ورغم الزخم الذي تشهده الفكرة حالياً بعد "العبرة الأفغانية"، غير أن العديد من المراقبين يرون عدم واقعية ذلك، وأن "أوهام الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي يجب أن تنتهي"، وذلك لاعتبارات أهمها أن "الأوروبيين لن يكونوا قادرين على استبدال الدور الحاسم لأمريكا كمزود للأمن".

وعلى هذا النحو، خلصت دراسة نشرها موقع neweurope.eu في يوليو/تموز 2020 بعنوان "لماذا تأسيس قوات مسلحة أوروبية ليس ممكناً؟"، إلى أن فكرة إنشاء قوات أوروبية مشتركة يُعد "مُعقّداً، ومكلّفاً من الناحية المالية، ومضيعة للوقت".

وركّزت الدراسة على عدم واقعية الفكرة حيث تمتلك أوروبا بالفعل تحالفاً عسكرياً فعّالاً وهو حلف "الناتو"، الأمر الذي يسقط الحاجة إلى كيان جديد ينفذ المهام نفسها من الناحية الوظيفية، مثل "التدريبات العسكرية المشتركة، والتنسيق الأمني والعسكري بين الأعضاء لمواجهة التهديدات المشتركة".

TRT عربي