وقدرت جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني أن نحو 5 آلاف طفل فقدوا طرفاً أو أكثر بسبب الحرب في غزة، من بينهم جهاد، الطفل الذي بُترت ساقاه وأصابع يديه بعد قصف استهدف خيمة نزح إليها في مواصي خان يونس في سبتمبر/أيلول الماضي.
"كان جهاد طفلاً مفعماً بالحياة، يحب الجري واللعب. اليوم أصبح شارداً، بالكاد يتحدث بسبب الصدمة، كأنما رحلت روحه مع ساقيه"، هكذا قالت لـTRT عربي ميس الشاعر، والدة الطفل لذي لم يتجاوز الثالثة من عمره.
"لا يدرك أنه فقد ساقيه"
وسط الدمار الذي خلفه قصف الاحتلال للخيمة التي نزح إليها الصغير جهاد وعائلته، بحثت ميس في التراب بيدين ترتجفان وقلب يملؤه الرعب، تحاول إنقاذ أطفالها. "حفرت على ابني جهاد بنفسي"، تقول والدموع تنساب من عينيها. لكنها لم تكن تعلم أن صغيرها فقد ساقيه وأصابع يده في لحظات.
قبل القصف، كان جهاد طفلاً نبيهاً مليئاً بالطاقة، كان يركض في كل مكان، لا يدع أحداً يؤدّي عملاً ما بدلاً منه. "كان يقول لي: أنا يا ماما، أنا اللي بدي أعمل"، تتذكر ميس بابتسامة حزينة. كان حلمها أن ترى ابنها يرتدي معطف الطبيب يوماً، ولكن هذا الحلم تبدد في لحظة.
واليوم يعيش جهاد صدمة كبيرة، بالكاد يتحدث، ويميل إلى الصمت والشرود. ويطلب من والدته أن يجري ويلعب بقدميه في الرمال، حتى إنه طلب مؤخراً أن يرتدي نعلاً، غير مدرك أن ساقيه لم تعودا موجودتين.
"كيف يمكن لطفل في الثالثة أن يفهم هذا؟"، تتساءل مي كأنها تحاول إقناع نفسها بأن ما حدث مجرد كابوس.
تعيش ميس وعائلتها الآن في خيمة بعد أن فقدوا منزلهم. أفراد عائلتها إما استُشهدوا وإما أصيبوا إصابات بليغة. زوجها يعاني إصابات خطيرة في يديه وقدميه، ووالداها وأشقاؤها بين مصابين وشهداء. رغم كل شيء، تواصل مي السعي لإعادة بناء حياتها، أو على الأقل حياة جهاد.
تحلم ميس بأن تخرج بجهاد من غزة، إلى مكان يمكنه أن يعيش فيه حياة طبيعية ويستعيد طفولته. "جهاد يستحق حياة أفضل، يستحق أن يركّب أطرافاً صناعية ويعود إلى اللعب"، تقول بإصرار، مؤمنة أن المستقبل قد يحمل لجهاد فرصة جديدة خارج غزة إذا حصل على الدعم.
وصرّح ممثل منظمة الصحة العالمية في فلسطين ريك بيبيركورن، بأن تقديرات المنظمة تشير إلى وجود ما بين 12 ألفاً و14 ألف مريض مصاب بأمراض خطيرة في قطاع غزة يحتاجون إلى الإجلاء الطبي.
"هل استيقظ الجميع فاقداً يده؟"
أما الطفلة كنزي ذات السنوات الخمس، فتغيرت حياتها إلى الأبد في ليلة 21 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي. كانت جالسة مع جدها في الحديقة عندما باغتتهم الصواريخ الاسرائيلية. استُشهد الجد، وأصابت الشظايا جسد كنزي الصغير تاركةً ندوباً لن تُمحى، جسداً وروحاً.
بعد أن اعتقد الجميع أن كنزي فارقت الحياة، لاحظ أحد الأطباء شيئاً غير عادي وسط الزحام في المستشفى. خضع جسدها الصغير لعملية جراحية طويلة لإنقاذ حياتها، لكن يدها اليمنى كانت بُترت في موقع القصف، وتعرضت لكسور في الجمجمة وجروح في أنحاء جسدها جعلت رحلة الشفاء طويلة وشاقة.
رغم صغر سنها، كانت أسئلة كنزي تحمل معاني الألم والوعي بالواقع الجديد. عندما استعادت وعيها سألت والدها: "يا بابا، هو أنا اللي صحيت لحالي من النوم مليش إيد؟ ولا كل الناس؟".
كانت تسأل عن يدها المفقودة، تريد أن تعرف لماذا هي مختلفة الآن، لماذا لا يمكنها أن تمشط شعرها أو ترتدي قميصها كالسابق.
قبل الحادثة كانت كنزي طفلة نابضة بالحياة، محبة للسباحة. حصلت على شهادتَي سباحة في سنها الصغيرة، وكانت تحلم بالاستمرار. حتى بعد الحادثة ظلت تبحث عن الأمل، تشاهد مقاطع فيديو لأشخاص يسبحون بلا أيدٍ، وتسأل والدها إن كانت تستطيع أن تكون مثلهم يوماً.
والدها يروي بحزن: "أحياناً أنسى أنها فقدت يدها. في أثناء تبديل ملابسها أقول لها: هاتي يدك الثانية يا بابا. فتتطلع إليّ وتقول: يا بابا، فيش إيد".
نُقلت كنزي مع والدها إلى تركيا قبل إغلاق معبر رفح لتلقّي العلاج، وخضعت لسلسلة من العمليات الجراحية وبدأت مرحلة التعافي.
يحاول والدها، رغم الألم، أن يوفر لها لحظات سعادة صغيرة. يصطحبها إلى أماكن الألعاب، يتجولان في السيارة، لكن الحزن العميق يظلّ حاضراً في أعينها الصغيرة.
وأكّدت اليونيسف في يوم الطفل العالمي 20 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، أن الأطفال في غزة يواجهون أسوأ الصدمات النفسية، إذ يعاني 100% من أطفال القطاع آثار الحرب النفسية.
"حرب على الأطفال"
وفقاً لتصريحات المفوض العامّ لوكالة الأونروا، يفقد نحو 10 أطفال يومياً أطرافهم. في الوقت نفسه حذرت منظمة الصحة العالمية من كارثة صحية مستمرة تهدد الأطفال مبتوري الأطراف بسبب غياب التأهيل النفسي والجسدي اللازم.
وأشار تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال إلى أن من ينجو من إصابات بتر الأطراف في غزة سيواجه سلسلة من التحديات المستقبلية، بما في ذلك صعوبة العثور على وظائف، ورعاية أسرهم، بالإضافة إلى المعاناة المستمرة من الجراح التي خلفتها الحرب.
وأكّد أطباء مختصون للصحيفة أن طبيعة الإصابات، مثل كسور العظام وبتر الأطراف، تجعل إنقاذ الأنسجة والأوعية الدموية أمراً بالغ الصعوبة، في ظل نقص العلاج الطبي، ما يعرّض المصابين لمخاطر العدوى التي قد تكون مميتة.
بالإضافة إلى ذلك، تسبب الإعاقة الناتجة عن بتر الأطراف تغييراً جذرياً في حياة الأطفال، مما يفرض عليهم التكيف مع ظروف جديدة عليهم، كما يحتاجون إلى تعليم خاصّ ورعاية نفسية ودعم اجتماعي لمساعدتهم على التكيف مع فقدان أطرافهم.
وفي تقرير صدر في يونيو/حزيران الماضي، أشار الأمين العامّ للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى أن الاحتلال الإسرائيلي ارتكب 5,698 انتهاكاً خطيراً ضد الأطفال في عام 2023 فقط، من بينها قتل وتشويه الأطفال، والاعتداء على المدارس والمستشفيات.
وفي اليوم العالمي للطفل هذا العام، وصف جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، العدوان الإسرائيلي على غزة بأنه "حرب ضد الأطفال"، مشيراً إلى أن 70% ممن أُزهقَت أرواحهم في غزة من النساء والأطفال.
وأشار المكتب الإعلامي الحكومي بغزة إلى أن الأطفال الذين استُشهدوا منذ بداية الحرب نحو 17,492 طفلًا، فيما يعيش أكثر من 35 ألف طفل في القطاع دون أحد والديهم أو كليهما.