منذ اغتيال الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، أمس الأربعاء، في مخيم جنين على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي تتابعت حملات الإدانة على النطاقين الدولي والحقوقي، وكذلك المطالبة بسرعة فتح باب التحقيق ليس فقط لمعرفة الفاعل بل لمحاسبته بلا تخاذل مثلما حدث في حالات الاغتيال السابقة التي قام بها جيش الاحتلال على مرّ سنوات طويلة مستهدفاً ليس فقط الشعب الفلسطيني ولا المقاومة بل أيضاً الصحافيين. فما قامت به قوات الاحتلال أمس هو انتهاك للقانون الدولي وعمل إجرامي استهدف إسكات صوت إعلامية كبيرة ذات تاريخ وصيت لازم مسارها المهني.
على عكس ما خططت له قوات الاحتلال الإسرائيلي، فاغتيال أبو عاقلة سلّط الضوء على جرائم إسرائيل، فحين حاولت منع صوت شيرين وصورتها من كشف انتهاكاتها في مخيم جنين، جذب اغتيالها انتباه المجتمع الدولي، وسلّط الضوء على جرائم إسرائيل بحق فئات الشعب الفلسطيني كافة.
لم تكن شيرين أول ضحية يستهدفها الاحتلال الإسرائيلي، بل إن طمس الرواية الفلسطينية من خلال استهداف الصحافيين ووسائل الإعلام أسلوب متّبع. يأتي ذلك سواء بمهاجمة الصحفيين في مواقع الحدث باغتيالهم وإصابتهم أو حتى قصف مقار إقامتهم في الأراضي المحتلة. الأرقام تقول إن 144 صحفي فلسطيني وأجنبي تعرضوا لاعتداءات جيش الاحتلال أثناء تغطيتهم الصحفية للأحداث في فلسطين المحتلة في السنوات الأربع الأخيرة، بحسب آخر تقرير لمنظمة "مراسلون بلا حدود".
ومن ضمن هذه الاعتداءات كان الصحفي يوسف كرنز الذي فقد ساقه اليسرى أثناء تغطيته مسيرة العودة عام 2018، وسامي مصران الذي كان يعمل صحفياً في تليفزيون القدس حيث فقد عيناً في عام 2019، وعلي جاد الله الذي استُهدف برصاصة مطاطية في الرأس. ومنذ عام 2000 فقدت الصحافة الفلسطينية أكثر من 46 صحفياً من بينهم يوسف أبو حسين في عام 2021، وهو صحفي يعمل في صوت الأقصى أثناء قصف غزة، وسيموني كاميلي صحفي وكالة أسوشيتد برس إيطالي الجنسية والذي قُتل برفقه مترجمه الفلسطيني علي شهة إثر انفجار صاروخ إسرائيلي في غزة عام 2014، وآخرها إصابة علي السمودي بطلق ناري في الظهر أثناء مشاركته في التغطية الصحفية مع زميلته شيرين يوم أمس قُبيل اغتيالها.
لم يستهدف العدوان الإسرائيلي على الصحافيين أثناء وجودهم في مناطق الأحداث والغارات وحسب، بل ذهب بصواريخه حتى مقار تجمعاتهم البعيدة عن مناطق القصف. ففي العام الماضي، في أثناء قصف مدينة غزة، استهدف سلاح الطيران الإسرائيلي العديد من وسائل الإعلام الدولية والمحلية، وقُصف 23 مقراً لمنابر إعلامية أهمها الجزيرة وأسوشيتد برس الأمريكية. وفي مايو/أيار استهدفت أربعة صواريخ إسرائيلية برج الجلاء في شارع عمر المختار بغزة والذي يضمّ مقار 15 من وسائل الإعلام أبرزها قناة روسيا اليوم والتليفزيون الألماني وتليفزيون دبي.
كل هذه الاعتداءات والاغتيالات مرّت دون فتح تحقيق أو محاسبة المتسببين. وهي جرائم تُرتكب بمنهج ووتيرة ثابتين وبلا خوف من الحساب، فهل اغتيال شيرين يوم أمس ومن خلال ما أحدثه من ضجة وتعاطف عالميّيْن يدفع باتجاه فتح تحقيق جاد حول هذه الانتهاكات ينبني عليه محاسبة المتسببين؟ أم كالعادة سوف تفلت إسرائيل من العقاب؟
حسب بيان صدر أمس عن منظمة العفو الدولية، فإن وتيرة العنف تصاعدت منذ أن تولّى رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت منصبه في يونيو/حزيران 2021، حيث شهد شهرا مارس/آذار وأبريل/نيسان قتل أكبر عدد من الفلسطينيين خارج نطاق الأعمال المسلحة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وبين 21 يونيو/حزيران 2021 و11 مايو/أيار 2022، قتلت القوات الإسرائيلية ما لا يقل عن 79 فلسطينياً، من بينهم 14 طفلاً، وفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية وسجلات منظمة العفو الدولية. وفي مارس/آذار، قتلت القوات الإسرائيلية 12 فلسطينياً، بينهم ثلاثة أطفال. وقُتل فلسطيني آخر برصاص مستوطن إسرائيلي. وقتلت القوات الإسرائيلية، خلال نيسان/أبريل 2022، ما لا يقل عن 22 فلسطينياً، بينهم ثلاثة أطفال، بحسب سجلات منظمة العفو الدولية.
صالح حجازي، نائب مديرة برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في منظمة العفو الدولية قال أمس: “إن مقتل الصحفية المخضرمة شيرين أبو عاقلة تذكير دامٍ بالنظام القاتل الذي يحاصر الفلسطينيين. فإسرائيل تقتل الفلسطينيين في كلّ مكان من دون عقاب. كم شخصاً بعد يجب أن يُقتل قبل أن يتحرك المجتمع الدولي لمحاسبة إسرائيل على جرائمها المستمرة ضد الإنسانية؟ يجب على المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أن يمهد الطريق لتحقيق العدالة والكشف عن الحقيقة، وتقديم التعويض لوضع حد للإفلات من العقاب الذي يشجع على استمرار هذه الجرائم".
أجمع المجتمع الدولي أمس على أهمية وضرورة فتح تحقيق، على رأسهم كارين جين بيير المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض التي قالت في حديث للصحفيين على متن الطائرة الرئاسية التي كانت تقلّ الرئيس جو بايدن إلى ولاية إلينوي: "ندعو إلى إجراء تحقيق شامل في وفاتها"، كما قال الناطق باسم الاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط بحسب مصادر قناة الجزيرة: "صُدمنا بمقتل شيرين أبو عاقلة في أثناء أداء عملها وندعو إلى إجراء تحقيق مستقل".
ودعت المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونيسكو" أودري أزولاي إلى إجراء تحقيق وافٍ قائلة في بيان صدر أمس: "أدين مقتل شيرين أبو عاقلة، فقتل عامل فى المجال الصحفي يحمل بوضوح شارة الصحافة"، موضحة: "القتل فى منطقة نزاع يُعدّ بمثابة انتهاك للقانون الدولي"، داعية السلطات المعنية إلى التحقيق فى هذه الجريمة ومقاضاة المسؤولين عنها".
وأدانت جامعة الدول العربية مقتل أبو عاقلة في مخيم جنين وحمّلت، بحسب وصفها، "حكومة الاحتلال المسؤولية الكاملة عن هذه الجريمة البشعة التي تستدعي المساءلة الدولية".
وأعربت وزارة الخارجية المصرية عن شجبها لمقتل أبو عاقلة أثناء تغطيتها الأحداث في مدينة جنين شمال الضفة الغربية، وقال أحمد حافظ، المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية، في بيان إن ما وصفه بجريمة الاغتيال النكراء تُعدّ "انتهاكاً صارخاً لقواعد ومبادئ القانون الدولي الإنساني وتعدياً سافراً على حرية الصحافة والإعلام والحقّ في التعبير"، كما طالب بالبدء الفوري في إجراء تحقيق شامل يُفضي إلى تحقيق العدالة الناجزة.
وتشير المادة 79 من البروتوكول الأول الإضافي لاتفاقيات جنيف لعام 1949 إلى أن الصحفيين الذين يباشرون مهمات مهنية في مناطق المنازعات المسلحة يجب حمايتهم اعتباراً ووفقاً لهذه الصفة بمقتضى أحكام هذا البروتوكول، وهي نفس الخلاصات التي سبق للجنة الدولية ذات العلاقة بالقواعد العُرفية أن أكدتها في دراسة للقانون الدولي الإنساني (2005) في قاعدتها 34 من الفصل العاشر، بوجوب احترام وحماية الصحفيين المدنيين العاملين في مهام مهنية في مناطق نزاع مسلح ما داموا لا يقومون بجهود مباشرة في الأعمال العدائية.
وبالرغم من كل هذه الدعوات الدولية لفتح تحقيق فوري وعادل إلا أن فتح مثل هذا التحقيق قد لا يعني تنفيذ العقاب وإيقاف وتيرة الاعتداءات على الصحفيين في الأراضي المحتلة، فحسب وجهة نظر منير نيسيبا أستاذ القانون الدولي بجامعة القاهرة، ليس هناك جدية في أي تحقيق دولي تكون إسرائيل طرفاً فيه. وأكد نيسيبا: "في كل مرة تكون هناك شكاوى بشأن حوادث محددة لجرائم حرب مزعومة أو جرائم ضد الإنسانية أو انتهاكات للقانون الدولي تحدث في الأراضي المحتلة، لا يأخذ الجيش الإسرائيلي التحقيق على محمل الجد".