لا تعد أوكرانيا نقطة المواجهة الوحيدة بين موسكو وبقية العواصم الغربية. إذ تضاربت مصالح الطرفين من قبل ولا تزال تحتد المواجهة بينهما، في سوريا وليبيا وإفريقيا وعدة مناطق استراتيجية أخرى، على اختلاف درجات الأهمية.
وإن كان الاهتمام يصب كثيراً وبشكل مكثف، في الأسابيع الأخيرة على الهجوم العسكري الذي شنته روسيا على أوكرانيا، والذي انبرى المجتمع الغربي خلاله لدعم كييف بشتى السبل، عسكرياً وإعلامياً ولوجستياً وغيره، إلا أنه لا أحد ينكر في الوقت ذاته، أن بقية الأقاليم والمناطق التي عززت موسكو فيها وجودها العسكري لا تقل أهمية عن ذلك، وقد تجعل من الأخيرة تتقدم خطوات بذلك على منافسيها.
فبعد أن ضجت وسائل الإعلام العالمية في السنوات الأخيرة بالحديث عن المكتسبات التي حققتها روسيا في القارة الإفريقية، موطئ القدم التقليدية ومركز النفوذ التاريخي للبلدان الغربية، يتساءل كثيرون اليوم أسئلة عن مصير هذا الحضور، لا سيما في مالي، في ظل احتدام الصراع في أوكرانيا، والذي يبدو أنه لا يزال بعيداً عن الحسم، ووظفت فيه روسيا كل إمكانياتها.
هل يتراجع الحضور الروسي في مالي؟
رغم الحصار المفروض والعقوبات التي تشدد الخناق عليها منذ بدئها العملية العسكرية في أوكرانيا في 24 فبراير/شباط الماضي، إلا أن ذلك لم يمنع موسكو من استمرار تقديم الدعم العسكري لحلفائها في غرب إفريقيا.
ففي نهاية شهر مارس/آذار المنقضي، سلم موردو الأسلحة الروس طائرتين مروحيتين هجوميتين ونظام رادار جوياً متقدماً على بعد آلاف الأميال، إلى العاصمة المالية باماكو.
وفيما وجهت روسيا دعوتها لتكوين شبكة دولية من المقاتلين الأجانب، واستدعت المقاتلين في سوريا وإفريقيا، للانضمام إلى قواتها العسكرية في تنفيذ مهام قتالية في أوكرانيا، فقد حافظت في الوقت ذاته على وجود جزء هام من مقاتليها في مالي، كما استمرت أيضاً في تدريب القوات المقاتلة التابعة لحكومة باماكو.
ووفق تقرير نشرته "فورين بوليسي" الأمريكية، نقلاً عن مسؤولين في الأمم المتحدة، فقد حافظت روسيا مؤخراً على قوة قوامها حوالي 1000 مسؤول روسي في مالي. كما جرى نشر مدربين منتمين إلى شركة فاغنر شبه العسكرية الروسية.
وفي السياق ذاته، أفاد مسؤول دبلوماسي روسي في تصريح لمجلس الأمن الدولي، بأن نحو 200 شخص من أفراد الخدمة المالية و9 من ضباط الشرطة، يتلقون حالياً التدريب في روسيا.
وبذلك فإن هذه المعطيات، تشير وفق ما أكده مسؤولون ومحللون، إلى أن روسيا تسعى بالرغم من انتكاساتها العسكرية في حربها على أوكرانيا، إلى الحفاظ على مصالحها الدبلوماسية والعسكرية المتنامية في إفريقيا، وبخاصة في مالي التي بدأت القوات الفرنسية تنسحب منها، إلى جانب بقية القوات الأوروبية.
ومن جانبه، قال جوزيف سيجل، مدير الأبحاث في مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية في جامعة الدفاع الوطني: "فاغنر هي أداة تستخدمها الحكومة الروسية لمحاولة تعزيز أهداف سياستها الخارجية."
وأضاف: "إنهم موجودون في مالي لإبقاء المجلس العسكري في السلطة لأن المجلس العسكري يخدم مصالح موسكو في إزاحة فرنسا والاتحاد الأوروبي".
وعلى الصعيد ذاته، يرى خبراء ومختصون، أن الحرب في أوكرانيا التي لم تحقق فيها موسكو مكاسب واضحة إلى الآن رغم مرور عدة أسابيع على اندلاعها، لم توقفها عن التطلع إلى لعب دور رئيسي في الساحل الإفريقي، وذلك على ضوء استمرار وجود عدد مهم من قواتها ومقاتليها هناك، واستمرار الدعم العسكري لحكومة برامكو.
مالي.. مركز نفوذ إفريقي لموسكو
نظراً للأهمية الاستراتيجية التي يحظى بها الساحل الإفريقي، أصبحت المنطقة منطقة صراع نفوذ بين القوى الدولية التي تتسارع فيما بينها للحصول على موطئ قدم فيها. ومنذ تولي المجلس العسكري السلطة في مالي، لم يعد الوجود الفرنسي مرغوباً فيه، وتنامت مشاعر العداء لفرنسا وتأججت المطالب بانسحاب قواتها في أقرب وقت.
ولم يكن من المستغرب أن تسعى روسيا في ذلك الوقت إلى ملء الفراغ السياسي والعسكري في المنطقة. خاصة وأنها كانت تتطلع إلى إعادة تموقعها العالمي، واستعادة نفوذها، وكانت ترى في إفريقيا بوابة لذلك.
وفي سنة 2019 وقعت باماكو اتفاقية دفاع مع روسيا، ما فتح ذلك الباب أمام مزيد من تدخل فاغنر. وما عزز المخاوف لدى فرنسا وبقية البلدان الأوروبية من تراجع النفوذ في الساحل الإفريقي مقابل تغلغل موسكو وتعزيز قوتها هناك.