يشير عديد من الخبراء إلى أن العالم ربما يتجه إلى عصر نووي جديد، فقد توجهت روسيا مؤخراً إلى تعليق مشاركتها في معاهدة "نيو ستارت" المبرمة مع الولايات المتحدة، فيما كثرت التقارير التي تشير إلى أن الصين تعزّز قدراتها العسكرية الاستراتيجية، وهو الأمر الذي يفتح الباب واسعاً للتكهن بمستقبل النظام الدولي في ظل سباق تسلح نووي.
هذا التكهن عزّزه إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، دعم ما يُعرف بـ"الثالوث النووي الروسي"، الذي يضمّ صواريخ هجومية "أرض-أرض"، وقنابل وقاذفات استراتيجية ضدّ أهداف برية، وصواريخ نووية تطلقها غواصات، متهماً الغرب في خطابه بمناسبة "عيد المدافع عن الوطن" بـ"التورط المباشر في محاولات ضرب قواعد بلاده الجوية الاستراتيجية" عبر حرب بالوكالة بذراع أوكرانية.
يُذكَر أن معاهدة "نيو ستارت"، التي وُقّعَت عام 2010، تحدّد عدد الرؤوس الحربية التي يمكن لروسيا وأمريكا نشرها والاحتفاظ بها. وفي العالم اليوم ما يقرب من 13 ألف رأس نووي، يُجمِع عديد من التقارير على أن روسيا هي الأكثر امتلاكاً منها، تليها الولايات المتحدة.
فوفق ما نقلته "يو إس إيه توداي" عن بيزنس إنسايدر، تمتلك روسيا 6850 رأساً نووياً، منها 1600 منتشرة و2750 مخزنة و2500 متهالكة، فيما تمتلك الولايات المتحدة 6450 رأساً نووياً، 1750 منتشرة و2050 مخزنة و2650 متهالكة.
من جانبها، يبدو أن الصين تحاول اللحاق بالدول العظمى من حيث قدراتها النووية. يشير تقرير لوزارة الدفاع الأمريكية، البنتاغون، نهايات العام الماضي، إلى تسارع نمو قدرات الصين العسكرية عموماً، إذ أوضح التقرير أن حجم الترسانة النووية الصينية سيتضاعف بأكثر من 3 مرات بحلول 2035، لتمتلك 1500 رأس نووي.
وتعمل الصين على تجاوز التفوق الأمريكي العسكري للأسلحة الاستراتيجية، إذ حدّثَت برنامج الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، كما كشفت عن صاروخ Dongfeng-41 الذي يمكنه حمل 10 رؤوس حربية أو مجموعة رؤوس حربية متنوعة.
بدوره، يعزّز حلف الشمال الأطلسي "ناتو" رؤية الذهاب نحو عالم نووي يوازن ويواجه بعضه بعضاً، إذ أعلن الناتو احتمالية تكرار سيناريو أوكرانيا في تايوان، لافتا إلى تخوُّفه من تعزيز الصين قواتها المسلحة بشكل ملموس، "بما في ذلك القدرات النووية".
على صعيد متصل، تسعى كوريا الشمالية جاهدة لتطوير برنامجها النووي من خلال العمل على تحسين قدراتها في الصواريخ البالستية طويلة المدى، وهي الصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية وتهديد الخصم.
ففي أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، أطلقت كوريا نوعاً من الصواريخ، التي حلّقت فوق اليابان، ويُعتقد أنها كانت من طراز هواسونغ-12 متوسط المدى، الذي يمكنه تجاوز مسافة 4500 كيلومتر، ما يضع جزيرة غوام الأمريكية، الواقعة في المحيط الهادئ، ضمن نطاقه.
في ظل سباق التسلح الاستراتيجي هذا، أكد مراقبون عزم دول كبرى مثل الصين وروسيا على تحدِّي الهيمنة الأمريكية والعمل على تشكيل توازن قطبي جديد مبني على القدرات النووية.
وحسب الدكتور عماد جاد، الباحث في العلاقات الدولية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، في حديثه لـTRT عربي، فإن تعليق روسيا مشاركتها في معاهدة الحد من التسلح النووي "إجراء وقائي تهديدي" لحماية أمنها القومي، عبر إعلانها استعداداً مُبطَناً لأي سيناريو إذا ما واجهت مخاطر وجودية، وهو وفق قوله "إجراء روسي تجاوز التهديد المتكرر باستخدام الأسلحة النووية، الذي دأب المسؤولون الروس على ترديده منذ بدء الحرب الروسية-الأوكرانية".
وأضاف: "لقد ردّت روسيا بتعليق مشاركتها في المعاهدة ردّاً على دعم الولايات المتحدة الضخم لأوكرانيا في حربها مع الروس، في وقت تستخدم فيه أمريكا وسائل ضغط على الصين، الحليف الأهم لروسيا، لإبعادها عن ساحة المعركة في أوكرانيا، ومنها مثلاً إثارة أزمة تايوان".
وتوقع اقتراب ظهور ما يسمى "عالماً متعدد الأقطاب"، مبرراً ذلك بـ"إمكانيات الاقتصاد الصيني الذي يقارب حجم الاقتصاد الأمريكي، والقدرات النووية لروسيا، بالإضافة إلى الثقل الأوروبي، الذي بدأ يبحث عن استقلاليته بعيداً عن الولايات المتحدة التي تسيطر على قراراته وأدخلته حرب أوكرانيا لاستنزاف اقتصاده وعلاقاته الدولية"، وفق تعبيره.
وأوضح جاد أن "أوروبا قادرة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً على الاستقلال عن أمريكا، فلدى فرنسا حقّ الفيتو الأممي، كما أن القوة الاقتصادية والعسكرية لألمانيا وفرنسا تؤهّل الاتحاد الأوروبي عموما للاستقلال عن مسارات واشنطن، ما يعني احتمالية نجاح روسيا والصين في خلق عالم جديد يستند إلى قوى متعددة مسلحة تسليحاً نووياً مدمِّراً".
وتُلزِم معاهدة "ستارت" التي دخلت حيز التنفيذ عام 2011، ومُدّدَت عام 2021 لـ5 سنوات، بعد تولّي بايدن الرئاسة، روسيا وأمريكا نشر ما لا يزيد على 1550 رأساً نووياً استراتيجياً و700 صاروخ بعيد المدى بحدّ أقصى.
كما تسمح لكل جانب بإجراء 18 عملية تفتيش لمواقع الأسلحة النووية الاستراتيجية سنوياً للتأكد من عدم انتهاك الطرف الآخر بنود المعاهدة.
وعُلّقَت عمليات التفتيش بموجب المعاهدة في مارس/آذار 2020 بسبب جائحة كورونا.
وكان مُقرَّراً إجراء محادثات بين موسكو وواشنطن في مصر لاستئناف التفتيش، في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، لكنّ روسيا أجَّلتها دون تحديد موعد جديد.
من جانبه أكد الأكاديمي أيمن سلامة أستاذ القانون الدولي، في حديثه لـTRT عربي، أن قرار روسيا تعليق مشاركته في المعاهدة لا يعني إلغاءها أو انسحاب الروس منها، لكن القرار "يلغي حضور المراقبين الأمريكيين تجارب الإطلاق الروسية، كذلك حضور المراقبين الروس تجارب الإطلاق التي تُجريها الولايات المتحدة"، ما يعني، حسب قوله، "انفتاح نوافذ المواجهة بلا ضوابط".
وعن احتمالية فرض عقوبات دولية على موسكو بسبب تعليقها العمل باتفاقية "نيو ستارت"، قال أستاذ القانون الدولي: "كان ذلك سيحدث لو انسحبت روسيا من المعاهدة، لكنها فقط علّقت العمل بها لأسباب تخصّ أمنها القومي واستعداداتها العسكرية والاستراتيجية لمستقبل مليء بالمواجهات".
ولفت إلى تصاعد التسلح الصيني، وإنْ جاء من باب "الدفاع عن النفس" حسب بكين، وتزامنه مع التطورات على الساحة الروسية-الأوكرانية، بأن العالم "ذاهب إلى مواجهات نووية".
وأكد الدكتور عبد المنعم سعيد، رئيس مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية سابقاً، لـTRT عربي، أن "دبلوماسية التهديد في عالمنا بدأت تنشط"، معتبراً تعليق روسيا مشاركتها في معاهدة الحدّ من التسلح النووي "تصعيداً لحرب نووية".
وتابع: "الرسالة المبطنة هي أن السلاح الروسي سيُفتح له المجال ليطال أي بقعة في العالم، بخاصة العمق الأمريكي، والعكس بالعكس مع السلاح الأمريكي".
وأكّد أن "الإجراءات لدى الدول الكبرى كلها تعطي رمزية عدم التعاون"، مشيراً إلى إنها لو لم تكن لغة إعلان حرب، فهي على الأقلّ "تمهيد لها"، لافتاً إلى أن "العالم كله صار يتحدث لغة المواجهة، وإنْ بدا أحياناً متحفظاً أو دبلوماسياً".