ماذا يتبادر إلى ذهنك أول ما يرد على سمعك مصطلح ”العنصرية“؟، الجاليات العربية والمسلمة في بلاد الغرب، اليمين المتطرف، الإسلاموفوبيا…
لكن هل سألنا أنفسنا يوماً؟ هل نحن سالمون من داء العنصرية؟ ألا يوجد بيننا عنصريون كما في بلاد الغرب، أو لعل الأمر يكون أشد؟ ما تجليات العنصرية في مجتمعاتنا؟ ما بنيتها وما أسبابها؟ كيف نؤسس في هذه المجتمعات لوعي سليم يدفع عنا هذا الداء وتمظهراته؟
سنة 2014 وجهت منظمة دراسة القيم العالمية سؤالين لأفراد من شتى دول العالم:
- إن كنت تسكن في مكان جديد، ولك حرية اختيار جيرانك، فاذكر أياً من هؤلاء لا تفضّل جيرته؟
- هل تقبل أو ترفض مجاورة عائلات أو أفراد من المهاجرين؟
كانت نتائج الاستطلاع صادمة 55,1% من الليبيين يرفضون مجاورة أفراد من جنسيات أخرى 37,7% من السعوديين عبروا عن نفس الموقف 34,2% من المصريين و 27,7% من العراقيين، ولا تسلم كل الدول الأخرى من نسبة قلّت أو كثرت.
بخصوص المهاجرين كانت النتائج أشد سوءاً 59% و 57,7% من المصريين يرفضون مجاورة المهاجرين ومخالطتهم، حتى دول المغرب العربي المؤهلة أكثر من غيرها للقبول بالآخر واستيعابه لأسباب تاريخية وثقافية وجغرافية سجلت نسباً غير ضعيفة في رفض التعايش مع المهاجر والمختلف.
دول المغرب العربي المؤهلة أكثر من غيرها للقبول بالآخر واستيعابه لأسباب تاريخية وثقافية وجغرافية سجلت نسباً كبيرة في رفض التعايش مع المهاجر والمختلف.
في روايته (ساق البامبو) يتعرض الكاتب سعود السنعوسي لمحنة العمال المهاجرين في دول الخليج، ملف شائك لا يخفى على أحد كثير من تجلياته وإشكالاته، رغم أن الكاتب حاول في روايته البحث عن تبرير لما يقع من عنصرية وسوء معاملة للأجنبي، لكن لا أحد يمكنه تغطية الشمس بالغربال، والمنطقة تعرف غلياناً حول الموضوع، قد يخف أو يشتد من دولة إلى أخرى.
قبل أيام فقط، نالت جزائرية من منطقة أدرار جنوب غرب البلاد لقب ملكة جمال الجزائر، استأثر الحدث بآلاف التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي، ليس تفاعلاً مع الفوز، ولا فتحاً لنقاش جدي حول هذه المسابقات وجدواها، ومدى ترسيخها لصورة نمطية إيجابية كانت أو سلبية عن المرأة في مجتمعاتنا، ولكنه كان هجوماً حاداً على الفائزة، على لون بشرتها الأسمر، وشعرها المجعد وشكل أنفها كما زعموا، ذهبت التعليقات إلى حد انتقاد أصلها والمنطقة التي جاءت منها.
أيمكن أن نقول بعد كل هذا وغيره أننا بريئون من العنصرية؟ لقد فضح الإنترنت كل شيء، كشف كل هذه السوءات التي يسعى العالم ويجتهد للقضاء عليها، بدل أن تكون التقنيات واختراعات العلم وسيلة للانفتاح على الآخر، وطريقاً نحو تبني قبول الاختلاف بكل مظاهره، أعدنا من خلالها إنتاج كل الصراعات القبلية القديمة، والنزعات العرقية والطائفية البائدة.
بدل أن تكون التقنيات وسيلة للانفتاح على الآخر وطريقاً نحو قبول الاختلاف بكل مظاهره أعدنا من خلالها إنتاج كل الصراعات القبلية القديمة والنزعات العرقية والطائفية البائدة.
إذا كانت العنصرية بمعناها العام يُقصد بها التمييز حسب اللون أو الجنس أو العرق أو الدين، فإنه يجب علينا الإقرار بأننا نعيش في مجتمعاتنا كل هذه الأصناف والأشكال، يعامل البيض نظراءهم السود بكثير من الاحتقار في كثير من دولنا، ترفض إلى اليوم بعض الأسر تزاوج أبنائها مع لون مختلف عنها، تعاني المرأة أنواعاً من التمييز في مجتمعات ذكورية تقوم عاداتها وأعرافها على تسلط الرجل وتحكمه في سير الحياة العامة، يقاوم كثير من الأعراق هاجس تعرُّض ثقافتها للاندثار والانقراض.
أما التفريق حسب الدين فيتجاوز الموضوع الثقافة الشعبية إلى القرار السياسي، في كثير من دولنا بعض المناصب والوظائف ما زالت حكراً على المسلمين دون غيرهم، ما زالت بطاقة الهوية في بعض هذه الدول تحمل خانة الديانة، وما زالت بعض البقاع ممنوعة على غير المسلمين، فضلاً عن منع بناء أي معابد سوى المساجد على الرغم من وجود تمثيليات للأديان والملل والمذاهب الأخرى.
المناهج الدراسية في بعض الدول العربية في شقها الديني تتحدث عن مفهوم الولاء والبراء، مفهوم يحمل في جيناته كل معاني العنصرية والتمييز، فلا محبة ولا موالاة إلا للمسلمين، ولا دعاء بالرحمة والمغفرة إلا للمسلمين، ومن تمام الإيمان إكنان العداوة والبغضاء لكل من لم يكن من المسلمين، ثقافة دينية تسربت إلى عمق ثقافتنا ويومياتنا، فالدعاء لـ“مرضى المسلمين"، والترحم على"موتى المسلمين".
لا تتوقف العنصرية الدينية عند التفريق بين المسلمين وغيرهم، وعند ادعاء الخيرية والأفضلية على سائر الناس، بل تطل النزعة الطائفية بقرونها حتى داخل الدين نفسه، توظف السياسة بمكر الصراع التاريخي بين السنة والشيعة للشحن والإلهاء والصرف عن القضايا الأولوية والراهنة، فيما يوفر الإنترنت منصة لاستدعاء كل الأحقاد القديمة، واتخاذها مطية لتفريغ الأحقاد والعقد.
ما زال العقل العربي للأسف الشديد لم يتخلص من منطق القبيلة، لا يدرك إلى اليوم على الرغم من أنه يمتلك كل وسائل التحديث أنه بحاجة لعقل حديث، وأنه من المفروض أن يبني دولة حديثة تقوم على أساس المواطنة، بعيداً عن الأعراق والأديان والأجناس.
ما زال العقل العربي للأسف الشديد لم يتخلص من منطق القبيلة ولا يدرك على الرغم من امتلاكه كل وسائل التحديث أنه بحاجة لعقل حديث.
لا تقوم التجمعات البشرية اليوم على أساس الجنس أو العرق كما كان الحال من قبل، يوم كانت وحدة الدم تلعب الدور المحوري في خلق كل أواصر التعاطف والتناصر داخل التجمع الواحد، على ما يتحدث عنه ابن خلدون في مقدمته، ويشرحه بتفصيل كبير، لذا تجد هؤلاء المتعصبين لا يزالون إلى اليوم يحرصون بغباء على"نقاء الجنس"، ويعملون على حمايته من الاختلاط أو الامتزاج مع أعراق وأجناس أخرى في نظرهم.
ما زالوا يؤمنون إلى اليوم بتفوق العرب على سائر الأعراق، وما زالت الامتيازات تُمنح لذوي أصول خاصة، بل يحملون معهم في جيوبهم ما يثبت استحقاقهم التقدير والتوقير من باقي المواطنين، مكافأة لهم على جودة أصلهم، حتى أضحت المواطنة في بلادنا درجات ومراتب تبعاً للجذور والأصول.
لا يدرك هؤلاء أن العالم تغير اليوم، وأن اكتشاف الجينوم والخريطة الجينية أحدث صدمات معرفية كبيرة، اكتشف معه أن الفرنسية الشقراء ذات العيون الخضراء من أصل إفريقي، وأن الأسود صاحب الشعر الأجعد تعود أصوله إلى سكندنافيا، فانهارت مع ذلك كل الأفكار النمطية حول الأعراق والأجناس، تجاوز العالم اليوم تقسيم المجتمعات إلى إثنيات لعب الحظ والهجرات القديمة الدور في ترتيبها وتصنيفها، ولا وجود اليوم إلا للمواطن بكل حقوقه والتزاماته بالمساواة مع باقي أبناء وطنه.
لا بد من الإشارة أخيراً إلى أن العالم بأسره يواجه اليوم مشكلة العنصرية، نرى ذلك أسبوعياً في دوريات كرة القدم الأوربية وما يعانيه اللاعبون الأفارقة وغيرهم، لكن الفرق أنهم هناك يدركون عمق المشكل، وأنه ليس من السهل اجتثات تركة آلاف السنين من العنصرية والاستعباد والتمييز دفعة واحدة وفي مئة سنة، لكنهم يواجهونه بشتى السبل والطرق، ما كان منها تربوياً أو قانونياً، يحاربون الظاهرة في الأسرة والمدرسة والإعلام، ويعاقبون كل مخالف بكل صرامة وحزم.
قبل أيام قليلة فقط، جُرِّد عالم الأحياء والوراثة الأمريكي الشهير جيمس واتسون من كل ألقابه وجوائزه بما في ذلك جائزة نوبل، مع أن الرجل هو أحد مكتشفي التركيب الجزئي الخاص بالحمض النووي DNA، لم يشفع كل ذلك له وقاطعته كل المختبرات العلمية، لأنه ربط بين مستوى الذكاء والعرق، وصرح أن الأشخاص البيض يتمتعون بكفاءات عقلية وأخلاقية وبدنية تميزهم عن السود، فهل تكون لنا الجرأة للاعتراف بأن بيننا عنصريين؟ وأن محاربة العنصرية والتخفيف منها على الأقل، يحتاج إلى إرادة وقرار سياسيين، تتلوهما جملة من الإجراءات والتدابير التربوية والقانونية، لعلنا نلحق بركب الأمم التي يمكن القول عنها بأنها في الطريق لتصبح مجتمعاتها غير عنصرية.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRTعربي.