نثَر المفتونون بالعولمة في أواخر القرن الماضي وعوداً سخية عن عالم منفتح تنساب فيه التدفّقات وتنشط فيه التبادلات بلا نظر إلى الجغرافيا، وأنعش متحمِّسو الليبرالية الجديدة آمالاً غامرة بمكاسب حرية التجارة وحركة الاستثمارات عبر أقاليم الأرض. ظلّت الجوقة ذاتها تتجاهل حرية البشر في التنقل الحرّ عبر القارات، ثم شرع بعضهم في المناداة بوضع العراقيل في وجوههم، وكأنّ المطلوب تصميم عولمة تروق لأطراف دون غيرها.
كان بوسع أوروبا بما لها من أدوار ونفوذ أن تتصرّف بصفة أكثر رشداً وصرامة لدرء حملات حربية وكبح صراعات متفاقمة أشعلت حرائق وبعثت أزمات من مرقدها.
تشكو نخب إفريقية من أن بلادها تمنح "العالم الأول" معادن وخامات نفيسة دون أن تحظى بعوائد تكافئ ذلك، وهي اختلالات تعود جذورها إلى العهد الاستعماري على أية حال. تتأسّس هذه الشكاوى على اغتراف الأمم الصناعية التقليدية من موارد الدول "النامية والفقيرة" دون أن تتمخّض هذه العلاقة المختلّة في كثير من مساراتها عن تجارة عادلة تمنح حياة كريمة للمجتمعات المحلية المُنتجة.
يبدو القلق مفهوماً لدى الأمم كافة من تحولات متسارعة في مجالات شتى، وهو ما يسري على أوروبا أيضاً التي تشهد انشداداً حالماً إلى ماضٍ متخيَّل يريد بعضهم العودة الوهمية إليه فراراً من هواجس الحاضر والمستقبل. يلوذ بعضهم بالانكفاء على الذات تحت ضغط الإحساس بوطأة العالم على واقعهم المباشر. والمفارقة أن هذا يجري بينما تواصل الأصوات ذاتها التعويل على رعاية مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في العالم ذاته، بما في ذلك بيع سلع وترويج خدمات وتحسين قدرات تنافسية في الأسواق الواقعة وراء البحار.
مع نزعة الانكفاء هذه يتفاقم الاتجاه إلى تحصين أوروبا لتصير قلعة منيعة بمنطق العصر الوسيط، ويبدو تأثير هذه السياسات واضحاً، فالأسوار تتعالى لتحجب البشر المتزاحمين من حول "الحصن"، الذين تنتهي آمال بعضهم بالغرق في البحر المتوسط أو الاختناق في الشاحنات المغلقة أو التجمّد في غابات البلقان خلال رحلات التسلل. لأوروبا مصلحة بأن تفكِّر في عالمها أيضاً، ومن ذلك فحص البواعث والملابسات التي تدفع حشوداً غفيرة من شعوب أخرى إلى طلب المأوى والمستقرّ في الشمال؛ لأسباب سياسية واقتصادية لها تبعاتها الإنسانية.
في الشأن السياسي كان بوسع أوروبا بما لها من أدوار ونفوذ أن تتصرّف بصفة أكثر رشداً وصرامة لدرء حملات حربية وكبح صراعات متفاقمة أشعلت حرائق وبعثت أزمات من مرقدها، لكنّ حملة بوش الابن وبلير مع بعض الأوروبيين في العراق انتهت إلى حريق إقليمي كبير وافتعلت فوضى عارمة ودفعت بأفواج من اللاجئين نحو أوروبا. تقاعَد قادة تلك الحملة ولم تخمد النيران التي تسبّبوا في إشعالها بعد، ولا تبدو الحالة في أفغانستان منذ الحملة العسكرية سنة 2001 وردية أيضاً.
ويجوز افتراض أنّ سياسات أوروبية ودولية متناقضة ومتأرجحة كان لها مفعولها ضمن الظروف التي أفضت إلى تهجير ملايين الأشخاص من بلدان عربية في السنوات الأخيرة، وفي النهاية لا يمكن لأعمدة الدخان أن تتصاعد على ضفاف المتوسط دون أن يصل شيء منها إلى ضفاف مقابلة. ومن التفاصيل الجزئية على سبيل المثال أنّ أوروبا لم تطلب من الاحتلال الإسرائيلي أن يلتزم بالقرار الدولي رقم 194 الذي يقضي بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم وديارهم التي تمّ تشريدهم منها. والنتيجة أن عشرات ألوف الفلسطينيين الذين اضطروا إلى الفرار من مخيماتهم حول فلسطين قصدوا أوروبا أيضاً بعد حرمانهم من العودة إلى مدنهم وقراهم المحتلة الواقعة على مرمى حجر رغم أنهم يحملون مفاتيح بيوتهم بأيديهم. يشير هذا المثال إلى الأثر الجسيم لبعض السياسات التي تؤدِّي إلى مضاعفات سيشكو منها أرباب هذه السياسات ذاتها في نهاية المطاف.
أما في الشأن الاقتصادي فإن شعارات حرية التجارة لم تحفِّز فرص السلع والخدمات القادمة من دول "الجنوب" ببلوغ الأسواق الأوروبية. واقع الحال أن الصعوبات والعوائق القائمة في هذا الصدد شاقة بالفعل، فمنها ما يتعلّق بتفاوُت القدرات التنافسية، أو ما يتصل بالقدرة على مجاراة "المواصفات والمعايير الأوروبية" المفروضة على الواردات إلى أوروبا. كما أن المنافسة في منتجات القطاع الزراعي تبدو شاقة بالنظر إلى الارتهان المتزايد للبذور الأوروبية التي تنتج ثماراً عقيمة تفرض اعتمادية مستمرة على مصدرها.
يجوز افتراض أنّ سياسات أوروبية ودولية متناقضة ومتأرجحة كان لها مفعولها ضمن الظروف التي أفضت إلى تهجير ملايين الأشخاص من بلدان عربية في السنوات الأخيرة.
وتضغط سياسات الدعم الأوروبية متعددة المستويات المكرّسة لتشجيع الإنتاج الزراعي الداخلي على فرص المنتجين غير الأوروبيين في المنافسة في التصدير إلى القارة؛ هذا إن اجتازوا مسألة "المواصفات والمعايير" أساساً. وتبدو المنافسة مستحيلة بالنظر إلى ظروف الإنتاج الفلاحي القائمة في الجنوب الأوروبي؛ حيث يتم تشغيل عمالة مهاجرة "بلا أوراق" في الحقول بأجور بخسة وضمن مواصفات يبدو بعضها أقرب إلى الاستعباد بما يضيِّق فرص المنافسة من خارج القارة. وعلى الجانب الآخر فإن الشركات الأوروبية الكبرى التي تتحكّم في أسواق المواد الغذائية والخضار والفاكهة، من خلال متاجر السلسلة التي تتبعها، تفرض سياسات سعرية ضاغطة على المورِّدين؛ بما يقلِّص هوامش الربح المتحققة من التصدير إلى أوروبا.
شجّعت هذه الاختلالات وغيرها هجران الأجيال الإفريقية الجديدة لأرضها وبحثها عن فرص في الهوامش الاجتماعية للمدن المكتظة، واندفع بعضها إلى أوروبا في رحلات تكتنفها المخاطر والمشاقّ والأثمان الباهظة.
دون أن يجرؤ راسمو الاستراتيجيات الأوروبية على خوض مراجعات عميقة للسياسات الاقتصادية والإنتاجية ذات الأثر السلبي على أمم أخرى؛ سيظل "التعاون الإنمائي" مع "الجنوب" محاولات سطحية وجزئية أو حبوباً مسكِّنة لمعضلات مزمنة. ليس في وسع السياسات الأوروبية أن تخوض إصلاحات جادّة على هذا النحو دون مصارحة جمهورها بأبعاد السياسات وكبح نزعات السوق الجامحة إلى الربح بأي ثمن. وستظلّ الظروف البائسة والمُهلِكة التي تعاني منها عاملات حياكة الملابس في بنغلاديش مثالاً شاخصاً على جشع الشركات متعددة الجنسية التي تنتج بالجملة في ظروف إنسانية بائسة لا تكترث بمواصفات السلامة والأمان والحقوق الأساسية لقوى العمل في مجتمعات فقيرة.
إن البديل عن مسار المراجعة والإصلاح هو أن تتفاقم "فوبيا العالم واللاجئين والهجرة" في أوروبا تحت ضغط حالة هوس تُذكيها الخطابات الشعبوية، وأن تتفاقم النزعات الانعزالية في بلدان القارة بصفة تم تجريبها في بريطانيا خلال استفتاء "البريكست" أيضاً.
دون أن يجرؤ راسمو الإستراتيجيات الأوروبية على خوض مراجعات عميقة للسياسات الاقتصادية والإنتاجية ذات الأثر السلبي على أمم أخرى سيظل "التعاون الإنمائي" مع "الجنوب" محاولات سطحية وجزئية.
لا تدعو المؤشرات الملحوظة للتفاؤل، فالحمّى الشعبوية تتفاقم وتقضم من الامتثال للقيم والمبادئ المقررة.يتراجع الالتزام المبدئي في أوروبا بتوفير المأوى الآمِن لمن يطلبه، ويواجه حق اللجوء عوائق غير مسبوقة إلى درجة امتناع السواحل الأوروبية عن استقبال سفن ومراكب تقلّ بؤساء هذا العالم، وهي دعوة مفتوحة لأن يغرقوا وشأنهم.
تحظى القسوة بفرصة واعدة في سياسات بعض الدول الأوروبية، ففي الجنوب قرّرت إيطاليا التصرّف بخشونة مفرطة إزاء القادمين من وراء البحر، وتحديداً منذ أن صعد ائتلاف اليمين الشعبوي إلى الحكم في سنة 2018. لكنه ليس البلد الوحيد الذي يربح فيها الخطاب المتشنج الذي يوصد الأبواب في وجه العالم، وتميل النزعة إلى الانكفاء المحلي الذي يضيق ذرعاً بأوروبا ذاتها التي انقشع بريقها الوحدوي السابق.
ومن الشواهد الرمزية على هذا التراجع أن المصير السياسي للمستشارة أنغيلا ميركل صار محسوماً في ألمانيا الآن، وما كان خروجها التدريجي من المشهد إلا بعد أن نُسِبَت إليها سياسات منفتحة في ملف اللاجئين؛ بما كبّد يمين الوسط المحافظ خسائر انتخابية متعاقبة. سينتصب هذا الدرس عبرة لأي سياسي "معتدل" أو "أمٍّ رؤوم" من بعد المستشارة "ماما ميركل" كما كانت تسمَّى، والتي احتفظت بموقعها مدة شبه قياسية؛ إلى أن هوى بمنصبها قلق الجمهور من العالم ولاجئيه.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عنTRTعربي.