والسؤال الرئيس الذي يطرح نفسه بقوة: ماذا بعد؟، هل في مقدور تلك الاحتجاجات الثورية أن تنجح في تأسيس عقد اجتماعي جديد يترجم تلك الإرادة إلى عدالة اجتماعية ناجزة، وإقامة دولة مدنية ديمقراطية تعمل للصالح العام أو ستسفر عن مهادنة تعيد إنتاج النظام؟.
ما هو العقد الاجتماعي وكيف يعمل النظام؟
ما أثبتته التجربة الثورية خلال ثماني سنوات مضت أن الشعارات الثورية الرومانسية ليست بكافية لتغيير نظام، ولكن لا بد أن تتوافر قوى اجتماعية بمقدورها الانتقال من الحراك الثوري المجرد إلى تمثيله وعقلنته على أساس إجماع من التوافقات الشعبية المتكافئة، بما يُشترط أن تكون غير هوياتية؛ أي لا تستمد شرعية التمثيل من الدين أو العرق، حتى تتمكن من التعبئة والحشد والضغط، ومن ثمّ الوصول إلى إتفاق يمُثل الإرادة الشعبية، والتمهيد لتأسيس نظام حكم دستوري، مبادئه المواطنة والعدالة والديمقراطية.
وحسب فلسفة العقد الاجتماعي الكلاسكية، فإنّ إرادة الشعب هي القانون الوحيد الذي يرجع إليه كل تشريع، بما يجعل من الدولة وتنظيماتها ضامن تنفيذ هذا التشريع، الذي ارتضى الأفراد بصفتهم "مواطنين أحراراً" الرضوخ إليه لصالح الأهداف العامة المتفق عليها. هذه الدولة تفقد شرعيتها حين تحيد عن هذا التشريع وتستأثر قلة من الناس بمقدرات الحكم والثروة العامة.
الدولة العربية شكلياً هي دولة حديثة تأسست على نص الدستور والتصويت الانتخابي ومؤسسات التشريع لكن جوهرياً هي دولة عسكرية دينية "عصبوية" ترتكز على الولاء بالطاعة والعنف.
ولقد تأسست الدولة الوطنية الحديثة في المنطقة العربية على توافقين شعبيين، هما الاستقلال عن الاستعمار، والتنمية الاقتصادية التي تضمن تحقيق الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية، واستطاعت هذه الدولة أن تنجز بعض المسائل فيما يخص الرفاه الاجتماعي خلال فترة الستينيات، كما تبنت خطاباً شعبوياً عاطفياً لعب على وتر القومية الوطنية والمؤامرات الخارجية، والممانعة في حال سوريا مثلاً ضد الصهيونية والتأمرك، كذلك تمكّنت من أدلجة رأس المال الرمزي والقيمي لصالح سياسات نفعية ضيقة، إذ وُظف الدين ومجموعة القيم والعادات الاجتماعية في إحداث انقسامات وتباينات هوياتية أخضعت الشعب في معادلة اضطرارية متوترة وهي الحرب مقابل الأمن.
هذه الدولة شكلياً هي دولة حديثة تأسست على نص الدستور والتصويت الانتخابي ومؤسسات التشريع، لكن جوهرياً هي دولة عسكرية دينية "عصبوية"، ترتكز على الولاء بالطاعة والعنف، وتعتمد على جهاز بيروقراطي قد ترهل، وتحمي على نحو متبادل عصبة من المحاسيب والثقات الذين يستحوذون على مقدرات الاقتصاد الريعي وتوزيع أرباحه، وهم خاضعون بالضرورة لإرادة النظام الرأسمالي المعولم، مما أفقدها شرعيتها ولم يعد في جعبتها سوى التلويح بفزاعة الإرهاب والاستقرار، وأسطورة غياب البديل.
ما هي القوى الاجتماعية التي يمكنها الضغط من أجل تأسيس عقد اجتماعي؟
يرى جان جاك روسو (1712 - 1778) أن العقد الاجتماعي في النهاية تحدده إمكانات بشرية، كما أنه اعتقد أنّ الثورات يمكن أن تستعيد الماضي المحافظ على أسس جديدة وواعية بذاتها، وبمنطق الثورية والإمكانيات، يحدد ماكس فيبر (1864 - 1920) مفهوم السياسة، بأنها "مجموع الإرادات التي تقاوم من أجل المشاركة في السلطة أو التأثير في توزيعها سواء بين الدول أو بين مختلف التجمعات داخل الدولة"، وهنا يُطرح سؤالان: ماذا لو بلغ النظام الماضي مداه من الفساد على نحو يستحيل معه إعادة إنتاجه؟ ماذا لو أصبح هو ذاته المعضلة؟، وما إمكانيات الإرادة الثورية التي تقف في الشارع حتى تشارك في السلطة أو تؤثر فيها؟ ماذا لو كانت النخبة المثقفة معطوبة وما تزال تؤمن فقط بالجانب المظلم من نظرية العقد الاجتماعي، الذي تتبنى من خلاله رؤية السلطة، ومفادها أن الشعب بدائي غبي وغير مؤهل للديمقراطية؟.
في الواقع في ظل الموات الحزبي والتشريعي والمؤسساتي يظل الشعب هو الرهان والكلمة الأولية المحركة لأي تغيير.
في الواقع، والحال هكذا، وفي ظل الموات الحزبي والتشريعي والمؤسساتي، يظل الشعب هو الرهان والكلمة الأولية المحركة لأي تغيير، وتاريخياً -وإن كانت فاعلية العمل النقابي مرهونة بآليات النظام الاقتصادي نفسه- فإنّ النقابات العمالية والمهنية ما تزال تحتفظ بدور مهم في مثل تلك المراحل الحرجة، لأنها تمثل مطالبات قوى العمل التي تشكل القاعدة العريضة للمجتمع بطبقتيه الدنيا والوسطى، وبالتالي هي الأقدر على الانحياز إلى المنطق الثوري، وإدارة التفاوض الجماعي مع السلطة لإحداث التوازن المبدئي في عملية تغيير الدستور والمرحلة الانتقالية، سواء أسفرت عن ظهور بديل مدني من صفوف الثوار، أو صعود الوجه الآخر للنظام ممثلاً في تيار الإسلام السياسي، كالنموذج التونسي، أو بقيت السلطة العسكرية كما في نموذج مصر وسوريا.
والتجربة التونسية تشهد على ذلك، فعلى عكس القوى النقابية في مصر، استطاع الاتحاد العام للشغل التونسي -وبناءً على شرعيته التاريخية النضالية وبفضل ديمقراطية انتخاباته واستقلاليته عن السلطة الحاكمة والطبقة الرأسمالية باستثناء بعض أعضائه القليلين الذين استمالهم نظام بن علي- أن يقود الثورة التونسية2011، وأن يكون صمام الأمان وفاعل توازن في العملية السياسية وإدارة الحوار المجتمعي والمشاركة في إعداد الدستور 2014، على الرغم من الاغتيالات التي لاحقت عدداً من قياداته.
وفي الدستور، رسّخ الاتحاد مبدأ استقلاليته وحرية تنظيماته، إذ أصبح بمثابة مراقب شعبي على سياسات الدولة وحزبها، والقادر على حشد الرأي العام وتوجيهه، وعلى الرغم من التحديات التي تواجهها تونس اليوم، فإنها تظل النموذج الأفضل في مجال الممارسة السياسية وملف الحريات، لا سيما إذا اتفقنا أنّ النظام وكما هو مبين أعلاه يصعب تغييره جذرياً، والآن إنما يُعوّل على وجود قوى اجتماعية بمقدورها ضمان فاعلية الحدث الثوري وتحويله إلى مكتسبات بعيدة المدى، من خلال تدارك الأخطاء ومعالجتها بالممارسة السياسية الحرة، ما من شأنه توسيع قاعدة التفاوض.
السودان والجزائر ورؤية متفائلة
لقد جاءت الحشود في شوارع كل من السودان والجزائر مباغتة ومفاجئة للأنظمة واستطلاعات الرأي النخبوية، نظراً إلى الوضع المزري الذي تعيشه الدول التي شهدت ثورات الربيع العربي، والخوف من الفوضى والإرهاب، لكن التأمل في شعارات الاحتجاجات مثل "تسقط بس"، في السودان، و"لا" الصريحة والحازمة "للعهدة الخامسة" في الجزائر، تنطوي على جسارة، وتعكس ما وراء تلك الشعارات من تحدٍّ، على شاكلة "دعوها تسقط وسنثبت لكم أننا جديرون ببناء ما بعد السقوط"، "لا" والسقوط المشروط والمحدد، حل محل شعارات إرادة الشعب المجردة في العدالة والحرية عام 2011، لربما قد وعت القوى الثورية الجديدة طبيعة المعادلة التي يجب تفكيكها بالتدريج انطلاقاً من الحدث الثوري.
إن شعارات الاحتجاجات مثل "تسقط بس" في السودان و"لا للعهدة الخامسة" في الجزائر تنطوي على جسارة وتعكس ما وراء تلك الشعارات من تحدٍّ.
أما من حيث التنظيم، فالاحتجاجات الثورية في السودان يقودها ما يُعرف "بتجمع المهنيين السودانيين" وهو عبارة عن اتحاد نقابي من العاملين والمهنيين الصيادلة والمعلمين والمصرفيين وغيرهم، ويمثل شرائح عديدة من المجتمع برجاله ونسائه، ويتبين من بياناته المعلنة أنّ هذا الاتحاد يعي خُدعة النظام على وجهيه الديني والعسكري.
بالنسبة للجزائر يبدو التنظيم الجماهيري مخططاً بدقة، لكن إلى الآن لم تتكشف قواه المحركة، بالتالي تظل السيناريوهات مفتوحة على كل الاحتمالات، وما يُعوَّل عليه هو وعي الشعب بمآلات تجربته المريرة في العشرية السوداء الدموية (1992 - 2002)، ولربما تتمخض عن توترات الحراك الثوري قوى اجتماعية قادرة على تمثيل مطالب الشعب. وإذا تحقق فسينعكس مردوده على زحزحة معادلة الدول العسكرية الأخرى، بما يرغمها على الاختيار ما بين الثورة أو بعض التنازلات، بدلاً من الحرب أم الأمن.
وختاماً كان أحد شعارات الاحتجاجات الجزائرية "يا أويحيي يا سعيد .. الشعب ليس سعيد"، إشارة إلى رئيس الوزراء أحمد أويحي، شعاراً دالاً استحضر مفهوم السعادة الذي أسس عليه روسو منطق العقد الاجتماعي؛ بمعنى أن كل نظام حكم لا يحقق السعادة للناس، يفقد شرعيته، ويسقط.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.