ولعلّ إحداث منطقة آمنة في الجنوب السوري، بعمق 35 كم على طول الحدود بين سوريا والأردن، سيلبي احتياجات أمنية ليس لدولة الأردن فحسب، وإنما لدول الخليج العربي، التي تتعرض لهجمات المخدرات وتهريب الأسلحة، القادمة من العمق السوري، الذي يديره النظام الأسدي صورياً وتتحكم به قوى الاحتلالين الروسي والإيراني.
إن الجنوب السوري يعتبر بعاصمته الإقليمية مدينة درعا مهد الثورة السورية، وهذا ما دفع نظام الأسد (الذي ساعدته قوات التدخل الروسية على التقاط نفسه قبل سقوطه) إلى البدء بعمليات عسكرية في يونيو/حزيران عام 2018 وبمساعدة حربية روسية، هذه العمليات أرادت منها روسيا فرض رؤيتها على وضع المنطقة أمنياً واقتصادياً، بما يخدم حليفها الأسد، عبر ما أسمته "اتفاقات المصالحة" في الجنوب السوري، التي تمثّلت بـ"تسليم السلاح الثقيل تدريجياً على مراحل، مقابل انسحاب النظام من بلدات المسيفرة والجيزة وكحيل والسهوة، وأن تنتشر قوات النظام على طريق محاذية للحدود الأردنية وصولاً إلى معبر نصيب في الأردن، الذي سيكون بإدارة مدنية سورية بإشراف روسي".
هذا الاتفاق وجد فيه النظام والإيرانيون فرصة لجعل بوابة الحدود السورية-الأردنية ممراً، يلعب دورين متلازمين في وقت واحد، فمن جهة أولى، يكون المعبر بوابة اقتصادية تمرّ عبرها عمليات الشحن البرّي نحو الخليج، فيستفيد من ذلك اقتصاد نظام الأسد المنهار، والاقتصاد الأردني الذي أثّرت فيه أحداث الصراع في سوريا. ومن جهة ثانية، يصير المعبر درباً لتهريب المخدرات والأسلحة نحو الأردن ودول الخليج العربية بما يشكله ذلك من تهديد لهذه الدول وسلمها المجتمعي.
الأردن لم يدرك أن اقترابه من النظام السوري عبر البوابة الاقتصادية سيضعه في مرمى نار نظام الأسد وإيران من جهة إغراقه بالمخدرات، واعتباره طريقاً لمرورها نحو دول الخليج العربية، أو نحو مصر.
لقد ذهب نظام الأسد الذي يعاني من انهيار اقتصادي كبير، إلى توسيع انتاجه السرّي من المخدرات "حبوب الكبتاغون والحشيش"، والبحث عن أساليب جديدة ومختلفة لتهريبها إلى دول المنطقة عبر الأردن، بغية تمويل عملياته العسكرية، واستمرار وجوده في السلطة، مما دفع الدولة الأردنية إلى الإحساس بالخطر المزدوج من فتح معبر نصيب الحدودي معها، فبدلاً من إنعاش الاقتصاد الأردني عبر مرور البضائع، وجدت الدولة الأردنية نفسها هدفاً مباشراً لمخططات إغراقها بالمخدرات والأسلحة، مما يهدّد وجودها كدولة، ويهدّد وجود الأسرة الهاشمية الحاكمة على رأس السلطة.
الخطر القادم من سوريا قال عنه قائد عسكري أردني رفيع المستوى هو رئيس هيئة الأركان المشتركة اللواء الركن يوسف الحنيطي إنهم في الأردن سيعملون على "استخدام جميع الإمكانات المتوفرة لدى القوات المسلحة لمنع عمليات التسلل والتهريب والتصدي لها، عبر تطبيق قواعد الاشتباك الجديدة بهدف الحفاظ على أمن الوطن واستقراره وسلامة مواطنيه".
الأخطار الأمنية بكل أنواعها، التي يعاني منها الأردن، دفعته إلى البحث عن مخرجٍ يقيه منها، إذ جرى اجتماع في دولة الإمارات العربية منذ مدة أقل من شهرٍ، حضره ممثلون عن فصائل ثورية من منطقة الجنوب السوري بمحافظاته الثلاث (درعا والسويداء والقنيطرة)، إضافة إلى حضور ممثلين عن مصر والإمارات والسعودية والأردن، وقد توافق المجتمعون الذين نالوا ضوءاً أخضر أمريكياً على وضع حدّ للنفوذ الإيراني في الجنوب السوري.
التوافق بين المجتمعين في الإمارات جاء على قاعدة تمكين أبناء الجنوب السوري من السيطرة على منطقتهم، وعلى إدارة معبر نصيب الحدودي، وهذا يتضمّن عملياً إخراج أي وجود عسكري لنظام الأسد من هذه المنطقة، باعتباره مرتكزاً تستند إليه فصائل مسلحة تابعة لإيران مثل حزب الله اللبناني، مما يساعد على وقف تهريب المخدرات والأسلحة وقطع الطريق على إيران لتنفيذ حلقات جديدة من مشروعها التوسعي القائم عبر الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية على الأردن ودول الخليج العربية.
هذا التوافق يعني بالدرجة الأولى إعادة تشكيل فصائل ثورية قاتلت نظام الأسد من قبل، وأن تقوم هذه الفصائل بإدارة الجنوب السوري مدنياً وعسكرياً، من خلال الدعم الواسع لهذه المنطقة خليجياً، لجعلها منطقة استقرار، عبر تنفيذ مشاريع اقتصادية وخدمية فيها، محمية بقرار أمريكي بجعلها منطقة حظر طيران.
إن جنوب سوريا في محافظاته الثلاث يعاني من عدم استقرارٍ ومن انفلاتٍ في أوضاعه الأمنية. هذه الحالة حوّلت الجنوب السوري إلى بؤرة صراعات إقليمية، جعلتها مركزاً لحالة تهديد جدّي لدول المنطقة وفي مقدمتها الأردن، وهو أمر دفع المجتمعين في الإمارات إلى التفكير والاتفاق بأن "تُنشأ منطقة آمنة بعمق 35 كم داخل الأراضي السورية" كما صرّح نقيب محامي درعا الأحرار سليمان القرفان.
إن اتفاق التسوية عام 2018 الذي تمّ التفاهم حوله بين الأردن وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، بُني على ضرورة إبعاد إيران عن كل منطقة الجنوب السوري، وهذا يعني إغلاق الباب أمام مشروعها في الهيمنة والتدخل بشؤون دول المنطقة.
إن تشكيل فصائل ثورية في محافظات الجنوب السوري الثلاث، يمهّد فعلياً لجعلها منطقة آمنة، يعود إليها سكانها الأصليون، الذين تمّ تهجيرهم ونزوحهم عنها، كما تنفع هذه الخطوة في تقليص عائدات النظام المالية، مما يعجزه عن متابعة حربه ضد الشعب السوري، ويجبره على القبول بالتفاوض مع قوى الثورة والمعارضة حول تنفيذ القرار الدولي 2254 الصادر في الثامن عشر من شهر ديسمبر/كانون الأول عام 2015.
المنطقة الآمنة، ستلعب أدواراً مختلفة تخدم في النهاية زوال الوجود الإيراني من سوريا، عبر قطع شرايين حياة حليف هذا الوجود الاقتصادية، ونقصد بالحليف "النظام الأسدي".
كذلك ستلعب المنطقة الآمنة دور واحة استقرار ونمو اقتصادي واجتماعي للسوريين، بالتضافر مع منطقة الشمال المحرر، وهو ما يضع النظام على سكّة فشله النهائي سياسياً واقتصادياً وأمنياً. هذا فضلاً عن اعتبارها منصة آمنة لإعادة اللاجئين السوريين إلى أراضيهم، وهو ما يبدو قد أصبح مطلباً دولياً.
وفق هذه الرؤية، يمكن القول إن مشروع إقامة منطقة آمنة في الجنوب السوري (في حال تم) يُعتبر حلقة من حلقات فشل التدخل الروسي والإيراني، لإعادة إنتاج نظام الأسد. والسؤال الأخير، هل إنشاء منطقة آمنة في الجنوب السوري مع مثيلة لها في مناطق الشمال المحرر سيكون بوابة نهاية نظام الاستبداد، أم بوابة لاحتمال خلق كيانات سورية مؤقتة، قد تقود إلى تقسيم البلاد وضياعها؟ سؤال سيجيب عنه الواقع قريباً.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.