الرئيس التونسي قيس سعيّد خلال لقائه وزير الداخلية توفيق شرف، بالقصر الرئاسي في قرطاج (الرئاسة التونسية)
تابعنا

لكن الرئيس يفاجئنا بنبرة متحدية وبخطاب لا يولي بالاً لما يقول معارضوه وما يفعلون في مواجهته. ما سر هذه القوة الظاهرة؟ وهل تملك أسباب بقائها؟ أم هو الخطاب الذي يذكّر بصوت الطبول الكبيرة.

بين قراءتنا المتفائلة وخطابه العالي المتعالي نحاول تبيُّن طريق لنفهم مسارنا ومصيرنا. تتبين لنا عناصر قابلة للتوليف في سياق تحليلي فنقول إن قوة الرئيس حتى الآن هي من ضعف خصومه ومن حيرة الوضع الدولي القريب على ما يكون بعده. وهو يعرف ذلك ويستفيد منه فينقل الأزمة إلى خصومه ويتقدم في الفراغ مغيراً تكتيكاته في مربعات صغيرة.

معارضو الانقلاب مشتتون

الطيف المعارض للانقلاب كان قليل العدد لكنه اتسع مع الوقت، فقد سبقت النهضة إلى المعارضة فيما ساندته أطراف متعددة. جمعت النهضة حولها، أو تقاربت وهو الأصحّ، مع طيف واسع من المثقفين والسياسيين المستقلين.

أبرزهم وأعلاهم صوتاً تحالف "مواطنون ضد الانقلاب"، ويمكن وصفهم بالمعارضين المبدئيين للانقلاب. بجانبهم وليس معهم ظهرت أسماء أخرى أملت خيراً من الانقلاب فلما خيّب رجاءها انحازت ضده. فتشكلت أمام الرئيس صورة معارضة مشتتة وغير ذات مصداقية. وهذه نقطة ضعف أحسن استغلالها حتى الآن فحقّر الجميع واستهان بهم.

أقدم الرئيس على خطوات مؤثرة ضد المؤسسات المنتخبة وآخرها المجلس الأعلى للقضاء لكن من داخل جسم القضاء نفسه وجد مساندين معارضين للهيئة المنتخبة. فظهر جهاز القضاء غير متفق ضده مثله كمثل المحامين، فعميدهم يقف معه ولا يبالي بمعارضيه في داخل جسم المحاماة. ويمكن أن نوسع المشهد لقراءة مشهد النخبة الجامعية التي تصمت وتنتظر مآلات اللحظة المرتبكة.

حديث عوام الناس عن الغلاء وصعوبات العيش تتناقض كلياً مع نسب موالاة الانقلاب التي لا تزال فوق الخمسين بالمئة حسب استطلاعات كثيرة. وسواء كان الرئيس يفكّر لنفسه أو يُفكَّر له فإن هذه الساحة المعارضة المشتتة تعطيه قوة تسمح له برفع الصوت ضد الجميع.

الخارج مرتبك ويحسب

يوجد خارج يقرأ الوضع التونسي بدقة ولديه معطيات تفوق ما لدى التونسيين عن بلدهم. هذا الخارج بدوره متعدد المشارب لكن لا نراه يضع الوضع التونسي أولوية في تكتيكاته. فتونس لديه تفصيل ضمن مشهد دولي متغير وشديد التعقيد.

الحديث عن موقف أمريكي مساند للديمقراطية (بشكل مبدئي) حديث مبالغ فيه يتناسى إسناد الأمريكان للانقلاب في العديد من الدول حول العالم تحت ذريعة حماية المصالح القومية. وهم يخوضون نزالاتهم مع الروس ومع الصين ويفاوضون أوروبا القارة العجوز في أفق أوسع لا يمكن لتونس أن تكون فيه عنصراً وازناً. وما لم يتورط الانقلاب (والرئيس) في حمام دم يحرجهم سياسياً لا أخلاقياً فإن الوضع في تقديرهم يظلّ تحت السيطرة، ويمكن الهمس لدول صديقة بتمويل الانقلاب بالرواتب كل شهر، وهو ما جرى في شهرَي يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط.

والخارج رغم تنوُّعه يعيش ورطة أخرى عنوانها "من سيحكم البلد بعد إسقاط الانقلاب؟ (في سيناريو تدخُّل خارجي لإنهاء الوضع الاستثنائي). في حسابات متأنية يظهر حزب النهضة أكثر المؤهلين لحلول محلّ الانقلاب إذا تم تنظيم انتخابات ديمقراطية (رغم كل ما يقال عن انهيار الحزب). قد لا يحوز الحزب على نسبة تمكّنه من الحكم وحده، لكنه سيحظى بوزن تفاوضي جيد، وهذه معضلة.

نعتقد أن الخارج (بكل عناوينه) لا يريد استئصال الإسلام السياسي، فقد مرت مرحلة شيطنة هذا التوجه الذي جعل طالبان عنوان كل إسلام سياسي (ونحن أقرب إلى وضع الثمانينيات حين كان الجهاد الأفغاني طيباً وشجاعاً في مواجهة الروس). لكنه لا يرغب في ذات الوقت أن يمكّنه من سلطة في أي بلد. فالتوجُّس غالب على الموقف الدولي. وهذا الإسلام السياسي غير قابل للضبط على مدى بعيد (بخاصة وهو مناور جيد). وهذا الخارج يرى في النجاح الاقتصادي التركي الذي قاده حزب ذو توجه إسلامي خطراً حقيقياً غير مسلَّح. نعم، ولكنه قادر على الاستيلاء على السوق (وهذا أخطر من فعل طالبان المسلَّحة).

فإذا نظر الخارج إلى الوضع التونسي وجد حزب النهضة هو المؤهل للحكم بحكم العدد والقوة التنظيمية (القياس إلى بقية عناصر المشهد الحزبي التونسي لا إلى أحزاب أوروبية)، فليس في تونس أحزاب أو قوة سياسية منظمة ذات وزن يمكن الاعتماد عليها لتتسلّم السلطة، لذلك يتردد في التدخل ضد الانقلاب، لأن بديله غير مريح وغير مرحَّب به. ونسمع الخارج يقول (لا لقتل الإسلاميين على طريقة بن علي، ولكن لا لمنحهم سلطة). وهنا يجد الرئيس عنصر قوة إضافياً. الخارج يحتمله على مضض (لا يقبل به) لكن الشرّ درجات ليس أخطرها الانقلاب، فبديله أخطر عليهم، وهو يعرف ويستفيد ويتحدى بنبرة واثقة.

التنفس من اختناق الآخرين

قد تكون هذه العبارة صالحة لوصف حالة المنقلب؛ إنه لا يملك قوة دفع ذاتية، ولكن خصومه في الداخل والخارج يمنحونه قوة كافية ليستمر في ما عزم عليه. هذه القوة مؤهلة للانهيار أمام الأزمة الاجتماعية التي يخلقها دون قدرة على حلها وبشكل جذري في المدى المنظور. فتدبير رواتب الموظفين قد يُحَلّ في نهاية كل شهر بأعطيات محدودة، لكن الأزمة أعمق من ذلك. إن العملية الاقتصادية في البلد متوقفة أو تنهار بسرعة قياسية.

إن فتح معركة ضدّ النهضة عبر استعادة ملفّ الاغتيالات لا يقدّم حلولا اقتصادية يحتاج إليها بسرعة قد يخلّصه الآن من عدوّ لدود، لكنه حلّ لا يتدبر به رواتب وسيعود سريعا إلى قلب الأزمة. وفي الأصل هذه ليست معركته الخاصة بل هي رشوة لمن يقف الآن معه من اليسار الاستئصالي الذي ليس له برنامج غير ذبح الإسلاميين بلا مقابل.

والحل؟ لا حلّ في الأفق رغم يقيننا من عجز الانقلاب أمام المعضلات الاقتصادية إلا انتظار دور الأزمة الاجتماعية التي خلقها ولم يقدر على حلها. حينها قد يصمت الجميع خوفاً من مواجهة الأزمة ويتحرك الخارج لأن الأزمة سترمي عليه بكوارث لا قبل له بها أهمها موجات الهجرة السرية.

في كل الأحوال الحل لن يأتي من الداخل، فهذه المعارضة فاشلة ومشتتة. وحساباتها الداخلية تثير الشفقة، فهي ليست متفقة على مبدئية الفعل الديمقراطي. لذلك لن تتفق على مبدئية مواجهة الانقلاب. وكثير منها سعيد ومسرور بما يفعل الانقلاب رغم صوتها المعارض له. وقد كتبنا دوما أن البلد يُسيَّر من خارجه، ونحن بصدد انتظار تدخُّل الخارج ليحسم الأمر في الداخل.

متى يتدخل الخارج؟ إن مصالحه لم تُمَسّ بعد، وحمام الدم لم يحدث بعد، فكل قتلى الانقلاب من النهضة، وهم قليل. لذلك يمكن للرئيس أن يُصدِر أصواتاً عالية مثل طبل كبير، ومَن يدري؟ لعل في ذلك خيراً، فقد تَأجَّل حلّ المعضلات الأساسية بغلاف ديمقراطي لم يملك قوة كافية لكي لا يظهر فيه مثل الرئيس المنقلب.

جملة شاعرية أخيرة: الانقلاب علامة على ديمقراطية كسيحة، لكنه ينظّف الطاولة لديمقراطية لا يمكن الانقلاب عليها، وهذا مشروع مفتوح.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي
الأكثر تداولاً