حيث سيجبر الاتفاق الشركات الكبيرة متعددة الجنسيات على دفع ضرائب في الدول التي تشهد تواجد أنشطتها الفعلية وليس في الدول المسجل بها مقر الشركة فقط.
وتشير القراءة المتأنية لهذا الإعلان إلى أن الاتفاق الجديد يرتكز على محورين مهمين للعدالة الضريبية في العالم، أولهما دفع الضريبة لدولة ممارسة النشاط، وهو الأمر الذي سيمنع تحويل الشركات الكبرى وخاصة شركات التكنولوجيا والتجارة الإلكترونية من تحويل أرباحها الناتجة من ممارسة أنشطتها في العديد من الدول إلى دولة المقر الرئيس للشركة إلا بعد دفع النسبة الضريبية المتفق عليها لدولة ممارسة النشاط.
ودأبت الشركات الكبرى على التهرب الضريبي من خلال تسجيل المقر الرئيس لأنشطتها في دول الملاذات الضريبية، وهي الدول ذات معدلات الضريبة المنخفضة أو المنعدمة، ووفقاً للتصنيفات الدولية فإن أكبر عشرة ملاذات ضريبية في العالم هي جزر فيرجين البريطانية، وجزر كايمن، وهولندا، ولوكسمبورج، وبرمودا، وسويسرا، وهونج كونج، وجزيرة جيرسي التابعة للسيادة البريطانية، وسنغافورة، ودولة الإمارات العربية المتحدة.
وتوفر هذه الملاذات لتلك الشركات إغراءات إضافية بخلاف الضريبية من خلال إخفاء هويات الشركات ورجال الأعمال وأنشطتهم في إطار المحافظة على تعاملاتهم البنكية والتجارية والمهنية.
وبالطبع، فإن حكومات هذه الملاذات تحاول التهرب من توقيع أي اتفاقات رسمية أو معاهدات لتبادل المعلومات، بخاصة بيانات الشركات والأفراد الذين يعيشون على أرضها، وهي تحرص على الحفاظ على ضبابية هذه الأسرار، والإبقاء عليها مجهولة لتشجيعهم على جلب أموالهم إليها، وغالباً ما تكون الجنة الضريبية دولة أو مقاطعة أو منطقة، تتسم بصغر المساحة ومحدودية الموارد الطبيعية، ولكن تتميز بقوة القطاع المصرفي، الذي يتجنب السؤال عن شرعية مصدر الأموال ومدة إيداعها والأنشطة التي تستخدم فيها.
والمحور الثاني الذي يرتكز عليه الاتفاق هو التوافق على حد أدنى 15٪ للضرائب على أرباح الشركات على مستوي العالم، وعلى الرغم من أنه أقل من المعدل الذي اقترحه الرئيس الأمريكي بايدن، إلا أنه وصف بالخطوة المهمة، ومن المتوقع التباحث على زيادته خلال الاجتماعات القادمة لقادة دول مجموعة العشرين.
وتحاول الدول الكبرى من خلال هذا الاتفاق السعي نحو الحد من السباق العالمي نحو القاع والذي يعني التوجه الذي تقبل عليه حكومات كثيرة في العالم لتخفيض ضرائب الدخل على الشركات في محاولة للتنازع على رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية، هو ما يؤدي في نهاية الأمر إلى انخفاض الإيرادات الضريبية من الشركات كأحد أهم مصادر الإيرادات العامة في العالم، وبالتالي تضرر الإنفاق العام على الخدمات العامة، وما يرتبط به من مقتضيات العدالة الاجتماعية.
ويشير مؤشر ملاذ ضرائب الشركات لعام 2021، والذي يصنف الدول الأكثر تواطؤاً في مساعدة الشركات متعددة الجنسيات على دفع ضرائب أقل، إلى أن تسهيلات هذه الدول لتجاوزات الشركات يكلف العالم 245 مليار دولار من الضرائب المفقودة سنوياً، وأنّ دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وتوابعها ( 37 دولة ذات دخل مرتفع)، مسؤولة عن 68% من مخاطر إساءة استخدام ضرائب الشركات في العالم.
ورغم أن الحد الأدنى المتفق عليه ليس بعيداً عن معدلات الضريبة في بعض الملاذات الضريبية من قبيل سويسرا وسنغافورة، وأنه بذلك قد لا يحقق ضرورات العدالة الاجتماعية المستهدفة، لكنه عملياً يعد أعلى من معدلات الضرائب في الكثير من دول العالم -باستثناء ربما عدد من دول غرب أوروبا- وهو ما يعني أن بعض التحسن قد يطرأ بالفعل حال اتسع نطاق الالتزام به، بخاصة في ظل الضغوطات المتوقع أن تمارسها الدول الكبرى على تلك الملاذات للانضمام إلى الاتفاقية، كما أنه لا يزال اتفاقاً مبدئياً وربما يجري رفع المعدل أكثر من ذلك لا سيما في ظل اقتراح الرئيس الأمريكي حول معدل 21%.
على الصعيد التركي، فمن المتوقع أن تتعدد مكاسب الاقتصاد في تركيا من هذا الاتفاق المهم، ويأتي تدعيم الإيرادات العامة للدولة بالمزيد من الإيرادات الضريبية في مقدمة تلك المكاسب، بخاصة من الشركات الرقمية العملاقة التي يتوجب عليها حالياً دفع نصيبها العادل من الضرائب، والذي سيسهم في خفض عجز الموازنة التركية والذي بلغ ما يقارب 245 مليار ليرة في العام الحالي، بسبب زيادة الإنفاق العام التركي على تعويضات المتضررين من أزمة كورونا.
وثاني المكاسب التركية من الاتفاق هو دعم التنافسية التركية في مجال جذب الاستثمارات الأجنبية، فمن المتوقع أن جزءاً لا يستهان به من تلك الاستثمارات التي اعتادت التوجه نحو الملاذات الضريبية ستعيد التموضع داخل الدول ذات البيئة التي تعظم ربحيتها، وبالتالي فلن تجد أفضل من السوق التركية التي تتمتع ببنية أساسية ولوجيستية قوية، فضلاً عن وفرة الأيدي العاملة والخبرات المدربة، والموقع الاستراتيجي المميز.
كما أن هذا الاتفاق يأتي في وقت شديد الأهمية للاقتصاد التركي الذي يستعد لأخذ مكانة أكبر عالمياً بعدما أثبت قدراته ومرونته العالية خلال أزمة كورونا، وهو الأمر الذي رشحه لشغل جزء لا يستهان به من خريطة العالم الإنتاجية الجديدة والتي يجري العمل على تشكيل ملامحها حالياً، والتي تحاول أن تتلافى الخلل الاستراتيجي الفادح في قصر الإنتاج على المصنع الصيني الذي لم يستطع تلبية الاحتياجات العالمية، ليس فقط أثناء الأزمة ولكن بعدها أيضاً، حيث شحّت العديد من السلع المهمة من السوق العالمية وعلى رأسها الرقائق الإلكترونية.
يعتبر اتفاق فرض الضرائب العالمية على الشركات متعددة الجنسيات مكسباً تاريخياً، يقوم على الإنصاف والكفاءة، من خلال بناء نظام ضريبي عالمي يتسم بالعدالة والفاعلية، الأمر الذي سيعمل على زيادة الأيرادات العامة التركية وجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية، ولا شك أن الإدارة التركية ستبادر بحزمة من السياسات والإجراءات والقوانين التي ستدعم الاستفادة التركية من هذا الاتفاق، ومن المرجح أن تنشط الدبلوماسية التركية خلال قمة مجموعة العشرين القادمة لتعظيم الاستفادة منه.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.